ثقوب


هل شاهدتم قبل الآن عص?وراً يموت؟

الشوارع ما تزال رطبةً ت?وح برائحة الليل، والعشب النا?ر الذي يقهر حوا? بلاطات الشارع يلمع بالندى مع أول خيوط الشمس المسكوبة ذهباً، الحياة لم تبدأ بعد ضجيجها، المدينة تتثاءب وتن?ض عنها بقايا أحلام الليل.

يستيقظ الحي متأخراً يوم الجمعة، لهذا بالذات أختار صباحاتها لرحلتي، رحلة البحث عن أن?اسي التي ابتلعها غرقي ?ي قلقي الليلي المعتاد، رحلة لقائي مع وجه المدينة الحقيقي.

أعلق بندقية الصيد المضحكة خاصتي على كت?ي، وأترك لقدمي حرية اختيار خارطة طريقها، أتن?س بعمق هواءً لذيذاً، وأتخيل ال?كرة التي تنبت ?ي رأس سيدة? تطل برأسها من شر?ة تخبئ خل?ها عالماً لا أعر?ه، وأ?كر: كلنا غرباء.

 

هل شاهدتم قبل الآن عص?وراً يموت؟

تبدو المدينة كأستوديو معدّ? لاستقبال جلسة تصوير، مشهدٌ ينبض بالت?اصيل، ينتظر ممثلين تأخروا عن مواعيدهم، أنا ?قط أملأ المشهد بحضور? إنساني قلق، أنا وبعض العابرين بحضور? بلاستيكي? شاحب نزعج صباح المدينة ونربك لحظات سلامها الصباحي.

أعبر خطوط الشوارع المتوازية بخطوات? واسعة? وحذرة? وكأني أخشى أن أوقظ غولاً نائماً.

ثمة الكثير من العصا?ير تصنع جوقة ضجيج? محبب?، وغربانٌ تستقبل يومهاً بتحليق? صباحي? صامت? إلا من بعض الصرخات هنا وهناك، صرخاتٌ تبدو كصلاة? صباحية خاصة.

 

هل شاهدتم قبل الآن عص?وراً يموت؟

أظن الطيور كائنات? مسرحية بامتياز، تجيد الكوميديا السوداء بشكل? يبعث على الرثاء، ثمة عص?ورٌ غريب يسكن ?ي ثقب منسي صنعه الرصاص ?ي صراع? داخلي على واجهة برج سكني يقابل ما كان يسمى (مجمع الوزارات)، البناء الذي قتلته الحرب ود?نّا ركامه ?ي شوارع المدينة، وثمة غربان جعلت من بقايا ركامه منزلاً. لا يبدو ذلك العص?ور عابئاً بثقب الذاكرة هذا، ويواصل صناعة حيوات? أخرى داخل ثقب? كان ليكون ?ي جسد أحدهم، وعائلة الغربان تلك تنعق كعادة الغربان دون أن يزعجها غياب سلسلة المباني التي كانت تشكل جزءاً من ذاكرة المكان قبل أن تجعل منه الطائرات خراباً هائلاً ذات حرب.

 

هل شاهدتم قبل الآن عص?وراً يموت؟

أجلس ?ي (حديقة الكتيبة)، المساحة الخضراء الجميلة التي تتوسط خراب الحيّ (تل الهوا)، خراب تتجاهله المدينة ولم يعد يلت?ت إليه أحد، أشعل سيجارةً وأراقب العصا?ير التي ترعى البقايا المتروكة على بساط العشب الأخضر الممتد بين الحديقة ومبنى (دار الكتب) العاري، أ?كر ?ي البندقية المعلقة على كت?ي ولا أشعر برغبة ?ي قتل أي كائن.

يق? مبنى (دار الكتب) مكسوراً هناك ?ي وسط (الكتيبة الخضراء)، لم تسكن الكتب يوماً هذا المبنى، تسكنه ?قط أسراب من السنونو، وقبائل حمام، وتشكل ثقوبه الكثيرة مدينة من طيور الدور?يّ التي تدمن حياة الثقوب، لماذا أرسلت الطائرات قذي?ة واحدة تركت المبنى مكسوراً وعارياً إلا من أعمدته الإسمنتية وسقو?ه الخراسانية الخمسة، لتتركه منحنياً إلى الغرب باتجاه البحر وكأنه يمارس سجوداً طويلاً ?ي الاتجاه الخطأ؟

إلى جوار المبنى يجلس كقزم? غريب? مبنى (قرية ال?نون والحر?) بجدرانه الطينية وسقو?ه المقببة التي بنيت كشاهد? على ذاكرة تكاد تموت، والآن يموت هذا المبنى ?ي هذا الركن منسياً وغريباً وقاحلاً، رغم وجوده على بعد خطوات من هذا الخزان البشري الذي يدعى جامعة الأزهر.

أدور ?ي مساحة الحديقة وكلي إحساس بال?راغ، أت?رج على ذاكرة تتآكل، وجمال تحاصره ذاكرة الدم والدمار من جهاته الأربعة، ويزح? عليه الإسمنت من كل ناحية.

 

هل شاهدتم قبل الآن عص?وراً يموت؟

لست سادياً، ولا أشتهي رائحة الدم، غير أني احتر?ت الصيد منذ كنت ط?لاً منبوذاً يعيش ?ي هذا الحي، كنت أهرب إلى حيث لا يضطهدني أحد، أتحرك وحدي وأكتش? كي? تبدو ر?قة العصا?ير ووحشة كروم العنب التي اخت?ت ?ي العشر سنوات الأخيرة تحت وطأة زح? الإسمنت والناس، أخ?ت وأخذت معها أ?قاً م?توحاً كان يطل على البحر من كل صوب.

الصيد هروبٌ من الذاكرة إلى الذاكرة، بحثٌ يأخذك إليك وحدك.

هل شاهدتم قبل الآن عص?وراً يموت؟

أعر? جيداً كي? تموت العصا?ير، تموت هذه الكائنات بصمت، بلا ضجيج ولا صراخ، بلا احت?الات? ولا صور? تخلد ذكراها، بلا سجلات تح?ظ أسماءها، ولا ي?تقد غيابها أحد.

أرشيف فلسطين الشباب