رام الله.. لا أريد ذاكرة مشوهة!

  • علاء عبد العزيز

عندما نزلت من السيارة على الإسفلت الساخن،

في بداية شارع النهضة، شعرت بقيض الصيف اللاذع يستقبلني ويلفح وجهي، كأن هذا الصيف غير كل صيف سبق. شعرت به مثل قطة تهاجم صاحبها بعد عودته من سفر طويل، تقفز إليه تداعبه، وتلحس بلسانها الخشن خده، وتحك فروها بثيابه، ثم تتركه وتهرب بعيدا دون سبب.

 

لم أشعر بحرارة الإشتياق، كما شعرت بحرارة إحتراق الصيف...

يا إلهي، لماذا لقاؤنا بارد إلى هذا الحد؟

بعد غياب غير مبرر، كانت اللحظات الأولى في لقائنا باردة جدا. لقد شعرت بأنها تغيرت، ملامحها، رائحتها، شكلها في ذاكرتي تغير عن آخر مرة رأيتها فيها.

لم ألتقط لنفسي صورة في إحدى شوارعها التي أحبها، رام الله تغيرت بسرعة، خلال أشهر قليلة جدا ... لم أتركها لسنوات، فقط أشهر قليلة!

تعالت غابات الإسمنت والرخام البارد في شارع الإرسال بسرعة مرعبة، وتمادت بالانتشار وطمر الشارع بالظل وبالبرد.. عندما تمشيت في شارع الإرسال باتجاه دوار المنارة اختنقت أكثر من مرة.. انقطع الأكسجين من رئتي وكدت أن أسقط على الرصيف الضيق مغما ً علي، حاولت جاهدا أن أبحث عن نسمة واحدة من نسائم شارع الإرسال فلم أستطع. سألت أحد المختنقين الملقى على حافة الشارع وقد ألصق ظهره على رخام بناية جديدة : يا عم، لا أجد هواء أتنفسه هنا! كدت أختنق، لماذا أغلقوا طريق الهواء القادم من البحر إلى قلب رام الله الجاف؟ رئتاي جفت وصدري ضاق من هذا الهواء المحمل برائحة الإسمنت الجديد. فقال لي بصوت اختلط بالحزن وبخيبة أمل من لا يجد ما يواسي به قلب عاشق قديم: يا بني ألا يوجد في رئتيك هواء قديم؟ تتنفسه قبل أن تموت! فالريح هاجرت المكان، تخلت عن رام الله وتركتها معلقة بين فكي وحش من حديد وورق بنكي، تلعب بها عجلات سيارات فارهة لا نعرف ملامح سائقيها.

إزرق وجهي من نقص الأكسجين الحاد. حدقت في وجوه المارة الغرباء، لم أجد أحدا ً أعرفه، لقد اختلفت الملامح وكأنهم كلهم يستخدمون فلاتر " سناب شات" في حياتهم اليومية.. هربت مسرعاً ، كنت أخطط أن أتمشى في شارع قلبي، شارع النزهة أو كما أحب أن أسميه دائما شارع المكتبة، خفت أن أموت مرة أخرى- وهو الشارع المعتاد على موت العشاق غدرا بالرصاص وبالحب القاتل- فقلبي لن يحتمل يتماً جديدا ،ونفْسي لن تحتمل موتا ً أخرا لو لم أجد الشارع مكانه، أو إذا وجدت الشجرات القديمات قد هربن من المكان .

لم ألتقط صورة لي في شوارع رام الله لأنني أحببتها كما كانت، ورأيت الله فيها ذات عمر ، ولا أريد أن أغيرها في ذاكرتي.

لا أريد أن أحتفظ بصور جديدة لها تفوح منها رائحة الموت، موت الماضي، موت الذكريات الهاربة من النسيان برصاصة من الخلف.لا أريد ذاكرة مشوهة. لن أحتفظ بصورة باهتة لا أجدني فيها إذا نظرت إليها ذات شوق

أرشيف فلسطين الشباب