يصاد? الخامس والعشرون من شهر أيلول 2021 الذكرى الثامنة عشرة لو?اة الناقد ال?لسطيني إدوارد سعيد. ولد سعيد ?ي القدس ?ي الأوّل من نو?مبر/ تشرين الثاني 1935، وبذلك يكون قد عاش سبعة وستين عاماً، ترك وراءه إرثاً مهمّاً ?ي الدراسات النقديّة والسياسيّة والثقا?يّة العامّة، بدءاً من كتابه "جوزي? كونراد ورواية السيرة الذاتيّة" الصادر عام 1966، وانتهاء بالكتاب الذي تو?ّي وهو يعمل على إصداره "عن الأسلوب المتأخّر- موسيقى وأدب عكس التيار"، وصدر برعاية زوجته مريم سعيد بعد ثلاث سنوات من و?اته (2006)، ترجمه ?وّاز طرابلسي وصدر بالعربيّة عام 2015 عن دار الآداب ?ي بيروت. عدا المؤلّ?ات والبحوث والدراسات والمقالات التي تناولت أ?كاره، ومناقشتها، وكان آخرها كتاب "أمكنة العقل... حياة إدوارد سعيد" الذي ألّ?ه أحد طلّابه ?ي دراسات الأدب المقارن الباحث والأكاديمي الأميركي تيموثي برينان، وصدر ?ي آذار 2021، ليكون سيرة غيريّة لإدوارد سعيد، تركّز- من خلال الوثائق التي خل?ها سعيد- على مسيرته ال?كريّة وتكش? بعضاً ممّا كان خا?ياً من مثل محاولة سعيد كتابة الشعر والرواية، إلّا أنّه لم يحقّق ?ي ذلك إنجازات لا?تة، ?ترك الشعر والسرد إلى غير رجعة، منحازاً بكلّ طاقته الإبداعيّة إلى النقد.

لا يتتبّع هذا المقال كلّ أ?كار إدوارد سعيد، ولا حتّى أغلبها أو جلّها، ?هذا يلزمه دراسات طويلة و?رق بحث، وإنّما يهد? إلى إضاءة بعض أ?كار إدوارد سعيد كما جاءت ?ي الحوار الذي أجراه "Imre salusinzky إمري سالوسينزكي"، وهو صح?ي أسترالي ومستشار سياسي وأكاديمي ?ي الأدب الإنجليزي، ونشر أوّلا ?ي كتاب " criticism in society"، ?ي نيويورك عام 1987.

ترجم الحوار وحرّره مع حوارات أخرى الناقد ال?لسطيني ?خري صالح، كانت قد أجريت مع ستة من الكتّاب والنقّاد العالميّين، ونشرت ?ي كتاب بعنوان "النقد والمجتمع"، وصدر عن دار كنعان ?ي دمشق عام 2004. ويكتسب هذا الحوار المطوّل والمسهب أهمّيّة خاصّة؛ كونه يناقش كثيراً من القضايا التي اشتغل عليها إدوارد سعيد، وتمسّ جانباً مهمّاً أيضاً من حياته الشخصيّة، كونه ?لسطينيّاً مسيحيّاً، يعيش ?ي أمريكا، وما تعرّض له من هجوم ?ي الدوائر البحثيّة والسياسيّة على حدّ سواء.

يعدّ إدوارد سعيد الناقد الأدبي الأبرز ?لسطينيّاً وعربيّاً، ويتمتّع بسمعة عالميّة ?ي مجالات البحث التي عمل ?يها، ?ي الاستشراق، و?ي مسألة النقد التطبيقي، و?ي معارضته السياسيّة لأوسلو. إضا?ة إلى كلّ ذلك ?هو ناقد علماني، لا أيديولوجي، يؤمن بوثنيّة النقد تماماً كما صرّح بذلك ?ي كتابه "العالم والنص والناقد " ?يما كتبه حول "النقد الدنيوي"، ولعلّ هذا الكتاب هو أهمّ كتب إدوارد سعيد النقديّة التي حاول ?يها توضيح منطلقاته النقديّة، وهو كتاب واضح اللغة والأسلوب.

هذه نقطة جوهريّة ?ي ?كر إدوارد سعيد، ساعد على بروزها وتنميتها وتعميقها عوامل عدّة، من أبرزها شعوره الملتبس بالانتماء إلى هوية ثابتة غير متشظّية، و?ي هذا الحوار يلخص هذه المسألة بقوله: "?برغم كوننا ?لسطينيّين ?إنّنا كنّا من الطائ?ة الإنجليكانيّة: وهكذا كنّا أقلّيّة ?ي وسط أقلّيّة مسيحيّة وسط أغلبيّة مسلمة".

لم تكن نكبة ?لسطين التي حدثت وإدوارد سعيد ابن ثلاث عشرة سنة عاملاً هيّن التأثير ?ي هذا التشظّي، ?قد سا?ر إلى عدّة أماكن من مصر إلى أمريكا إلى إنجلترا، بالإضا?ة إلى تحدّثه اللغة الإنجليزيّة والكتابة ?يها، إلى جانب العربية. يص? كلّ ذلك على هذا النحو: "لقد كانت أمريكا وإنجلترا مكانيّ البديلين، وكانت الإنجليزيّة اللغة التي أتكلّمها إضا?ة إلى العربيّة منذ كنت صبيّاً. كانت لديّ دائماً الأحاسيس الغريبة والشاذّة لكوني لا منتمياً، إضا?ة إلى إحساسي الدائم مع مرور السنين بأنّه ليس لديّ مكان أعود إليه. أنا لا أستطيع العودة إلى ?لسطين لعدد من الأسباب أهمّها الأسباب السياسيّة، كما أنّني لا أستطيع العودة إلى مصر التي ترعرت ?يها، كما أنني لا أستطيع العودة إلى لبنان حيث تعيش أمّي وحيث مسقط رأس زوجتي. إنّ خل?يّة حياتي هي سلسلة من الانزياحات وعمليّات الن?ي التي لا يمكن استردادها".

ويل?ت إدوارد سعيد نظر محاوره عندما سأله عن كتاب "تغطية الإسلام" إلى أنّه ير?ض التوصي? الذي يقال عنه أحياناً إنّه يعدّ "مدا?عاً كبيراً عن الإسلام" واص?ا هذا الكلام: بأنّه "لا معنى له"، ولأنّه "?ي الحقيقة شخص غير متديّن". ويؤكّد هذه ال?كرة مرّة بعد مرّة ?يقول: "إنّ خل?يّتي الشخصيّة تتضمّن جرعة قويّة أيضاً، خصوصاً تلك المتعلّقة بعائلة أمّي المسيحيّة اللبنانيّة اليمينيّة التي لا تقلّ تعصّباً عن كاهانا، هذا كلّه ليس ممّا أؤمن به وما كنت أحاوله هو التخلّص من ذلك العبء وانتزاع ن?سي منه".

هذه إذاً ملامح رئيسيّة ?ي شخصيّة إدوارد سعيد انعكست على منهجيّته النقديّة وأ?كاره السياسيّة، ?وق? ضدّ كلّ الأصوليّات المسيحيّة واليهوديّة والإسلاميّة، وانحاز إلى ?كرة العلمانيّة؛ كونها بديلاً محايداً ?ي الد?اع عن أ?كاره ب?ح?رّيّة مطلقة جنّبته الكثير من انزلاقات الانتماء العقدي، وخاصّة محاولة جهات متعدّدة زجّه ?ي صلب العداء للساميّة عندما انتقد الإسرائيليّين، ور?ض أوسلو. هذه المسألة (الاتّهام باللّاساميّة) عرّضته لمضايقات كثيرة أوصلته إلى حدّ التهديد بالقتل ومهاجمته ?ي بيته و?ي مكتبه، بل إنّ الأمر تجاوز ذلك إلى أنْ تقوم الجمعيّة اليهوديّة بكتابة "مراجعة لكتاب "العالم والنص والناقد"، حي? عنت كلمة (دنيوي) بالنسبة لهم "الدولة الديمقراطيّة العلمانيّة" لياسر عر?ات، وهو ما يعني (حسب المراجعة) موت اليهود. ومن ثَمّ ?إنّ سعيد إرهابي".

لم يكن إدوارد سعيد يطالب بإخراج الإسرائيليّين من ?لسطين، وإنّما كان يتبى حلّاً وسطاً، يراعي ?يه المسألة من ناحية واقعيّة لمحاربة التطرّ? الديني، ويتصوّر هذا الحلّ على هذه الشاكلة: "لكن ?ي منتص? الطريق إلى المستقبل القريب، سيكون مثيراً للانتباه أنّ عدداً من الإسرائيليّين وال?لسطينيّين سي?كّرون ?ي خطوط متوازية وبالطريقة التي ذكرتها من قبل: ضدّ ?كرة التقسم، وكبديل عن ذلك إقامة دولة يهوديّة/ ?لسطينيّة ديمقراطيّة، وسيكون هذا الت?كير، وعلى عكس ما هو متوقّع، ردّ ?عل على أناس مثل كاهانا الذي أثار المسالة وقال بأنّه مستحيل إقامة دولة يهوديّة ?لسطينيّة ديمقراطيّة".

"?نحن لا نستطيع حقيقة الحديث عن شعبين من?صلين، لأنّ حيواتنا مترابطة ومنشبكة بسبل مختل?ة، و?ي هذه اللحظة عبر هيمنة مجموعة على أخرى، لكنّ ?كرة الدولة المن?صلة المتمايزة هي صورة زائ?ة للعدالة، وما أعتقد أنّه تحقيق لليبراليّة والتجربة الاجتماعية العظيمة".

والآن وبعد ثماني عشرة سنة من و?اة إدوارد سعيد ماذا صمد من أ?كاره السياسيّة الليبراليّة المتحرّرة من الإيديولوجيا والأصوليّة السياسيّة والمسيحيّة والإسلاميّة، تلك الأ?كار التي طرحها ?ي هذا الحوار، وكان قد ناقشها ?ي كتبه بصرامة وجديّة ?ي البحث من مثل: "تغطية الإسلام" و"الاستشراق" وكتاب "العالم والنص والناقد "، وغيرها من الكتب، وتنحاز إلى ما قد يص?ه بأنّه "عقلانيّة ?كريّة وسياسيّة"؟ هل سيصغي إليه الطر?ان؛ ال?لسطيني والإسرائيلي أم أنّ المسألة أصبحت أكثر تعقيداً الآن، حتّى بعد رحيل مائير كاهانا، بوص?ه علامة على التطر? الصهيوني المصطبغ بصبغة دينيّة، تحمل ?ي داخلها مشروع تطهير عرقي ضدّ العرب ال?لسطينيّين؟

أظنّ أنّ الواقع الحالي، ?لسطينيّاً وعربيّاً ودوليّاً، لا يو?ّر لهذه الأ?كار حياة صالحة، ?ليس لها بيئة تحتضنها، ولا يوجد مناخ عام يشجّع عليها، ?العالم جميعه أوروبيّاً وأمريكيّاً وإسلاميّاً وإسرائيليّاً- صهيونيّاً يسير نحو التطرّ?? أكثر من عقد الثمانينيّات، وصار العن? لغة أوضح من ذي قبل، ما يعني أنّه لا بدّ من قراءة أ?كار إدوارد سعيد قراءة مغايرة مع اختلا? الظرو?، واختلا? اللاعبين، لكنْ مهما اختل? اللاعبون ?إنّ ال?كرة التي ب?ني عليها العالم، هي ?كرة القوّة والهيمنة والسيطرة التي حاول إدوارد سعيد النبش ?ي جذورها وكي?ية التعامل معها، لاسيّما ?ي كتابيه "الاشتشراق" و"تغطية الإسلام"، إذ لا تميل القوى العالميّة إلى ?كرة الاقتسام العادل للعالم، سواء ?ي اقتسام الثروات أو السيطرة الجغرا?يّة، ما يعني المزيد من العن? والصراع و?شل ?كرة التعايش من أساسها واتجاهها نحو القطبيّة الواحدة والاستعباد، داخل القطر الواحد، ناهيك عن ?شل ?كرة التعايش عالميّاً وعقم الدعوة إليها.

?هل من ضوء ما ?ي نهاية الن?ق بعد كلّ ما جرى منذ ذلك الحوار عام 1987 وحتى اليوم، وقد شهدت العالم ولادة م?كّرين ي?كّرون على نحو مغاير ممّا ي?كّر إدوارد سعيد من أمثال صامويل هنتنجتون وأطروحته "صراع الحضارات"؟

أرشيف فلسطين الشباب