وهكذا نغيب، عن أحداثٍ جلجلت واقعنا وعصفت به، وشطرتنا أرباعا ً وربما أشلاء، عن مشاهد كانت ستودي بنا -لو بقينا على وعيٍ كامل بها –.
نغيبُ ببطولةِ الغائبِ الحاضر، الذي يرى حادثَ وفاةٍ بعينِ المغشي عليه فلا يكابدُ ألماً ولا يعتصر حزناً.
أغيب أنا كل يوم أمامَ حاجز حروفه زيتونةً- لا بد أن تكون باكية- ما أخذَ من عزتها سوى الاسم! أغيبُ عن حجم المأساة وقضية الوجود. لا اعبأ سوى بالوقت اللازم لأصل، وبكم الواجبات الهائل الذي ينتظر.
امتحانٌ الأربعاء وآخر ينتظر دوره السبت، غرفةٌ ضوضائها وصل السقف بحاجة إلى إعادة تأهيل، اثنتان وثلاثون طالبة في دورةِ المونتاج على المقاعد الأحد ومشاريعُ شارفت على الاقتراب من خط الموت، وحضرتي وزيرتها، خمسون طالبا ً في الصف السابع وآمال باذخة تعقد على مشروع التفكير وأنا من يطبقه عليهم، أحبة يحتلون الروح بتسلط المستعمر، مودعون ما زالوا يصرون على إزعاج ذاكرتي صباحا ً أو مساء.
هذا أنا وحدي فما بالك بشعب كامل؟ يمارس الغياب كل يوم عند كل حاجز!
ها هم إذا ً يصلون مد بصري، جنود لا أميز أحدهم عن الآخر، ينفذون وظائفهم ببساطةٍ عجيبة، يدركون تماما أننا جميعا في حضرة الغياب. يضحكون يتبادلون حبل المزاح بينهم، يأكلون دائما، لا يكترثون أصلا لوجودنا، ربما لا يروننا، أو أننا نحن أصبحنا منذ زمن لا نُرى ولا نُشَم ولا نُحس نغيب فقط.
تصل الحافلة، يترجلُ الجميع، ندخلُ الممر الحديدي، بهدوءِ القبور، نُخرج بطاقاتنا، لا مجال هنا لاستحضار أيٍ من الحقائق، فلو حصل واستحضرها أحد يوقّعُ حينها بملءِ إرادته على مأساةٍ محتمة تعددت عناوينها وكلماتها، فتراه إن فكرَ قليلاً باستحضارِ ذاته بحقائقها عاد، سنينَ عمرهِ لم تمرَ بها 1948 ولا 1967 ولا 2009 لا أرض مسلوبة ولا حق ضائع، لا دماء سالت ولا سجون فاضت، هنا السيادة التامة للغياب.