حدث أن اجتمعنـا شبانا وشابات في ذكرى نكبتنا، في ذلك المكان المزدحم بالغرباء، لم يكن اغترابا جديداً في موطن الغربة الدائم،
إنه الاغتراب ذاته الذي نعيش فيه إلى أجل، لربما، بالنسبة لنا، مُسمّى.
حول خارطة فلسطين الكبيرة، انتصبنـا كجنود، من جنين إلى غزة. وقفنا هناك، بين ارتفاع السماء وسرير حنضلة، نحدًث المارين عن أحداث النكبة، ذكراها، وما تلاها. كنت في سعادة غامرة في حديثي مع الناس حول تاريخنا، ونقاشي مع غير العرب منهم عن وقائع اختلفوا في صحتها. ووصلتُ إلى القمة عند وقوفي بكل فخر بجانب الخارطة أشير للناس إلى مناطقهم الأولى، أتعرّف على مدنهم، وأعرّفهم على مدينتي.
كان من المارين بين كلماتنا حول ليل الفلسطينيين الطويل، أولئك الذين من دعاة: "احملوا أسماءكم وانصرفوا". روعة لحظاتي تلاشت عقب حديثي مع بعض الشباب الفلسطيني التائه في براكين اللامبالاة بالقضية الفلسطينية، وجهلهم بمبدأ الحرية وحق العودة. مرً بي شاب سأل عن موقع قريته على الخارطة، فبادرت بسؤال صديقه من أين يكون؟ فلم يعرف. لم أتفاجأ، فهو أمر طبيعي من شاب ولد ونشأ في الغربة أن لا يكون على دراية كافية بالمدن والقرى الفلسطينية.
سألته: أين نشأ؟ وأي جواز سفره يحمل؟ لعلنا نعلمه من أيً منطقة كان لجوؤه. ما أثار غضبي حقا ًكان ما نطق به لسانه عندما أعطيته كُتيبا عن ذكرى النكبة كان قد طُبع عن طريق السفارة الفلسطينية و"جمعية البيارة الفلسطينية" في أبوظبي: "آخر شي بفكر فيه إنو أروح على فلسطين". كان هذا رده عندما قلت في نهاية حديثي: "إن شاء الله ترجعوا على فلسطين". لم يتوقف كلامه عند هذا الحد، وإنما استمر في المُغالطة والكلام بلا معنى عن عدم اهتمامه وتبرئة نفسه من الهوية الفلسطينية. لم أعلم إن كان السبب وراء هذا الكلام هو استفزازي فحسب، أم أنه حقيقة يعيشها في حياته اليومية. فما كان مني إلا أن طردته؛ طردًا محترمًا، في محاولة مني تمالك أعصابي والتصرف بأدب، كي لا أدخل معه في نقاش بلا فائدة، أو أكسر الدنيا على راسو!
قال هذا الولد كلاما استفزني، لا أود ذكره، حتى لا تكرهوا أمثاله من الفلسطينيين. صادَمتني طالبات أخرَيات في المرحلة الثانوية، قالت إحداهن: "أنا من غزة"، والأخرى كانت من عكا. حدثتهن عن جمال عكا وأحجارها وطبيعتها الرائعة وآثارها، وأعدت الكلام مراراً وتكراراً وأشرت إلى أنها من أجمل المدن الفلسطينية التي، ومنذ زيارتي لها وقعت في حبها على الفور. ثم انتقلنا بالحديث إلى حصار غزة وجدار العار الذي يُهدًدها.
كانت الفتيات يستمعنَ باهتمام، حتى انتهى حديثنا فجاءت الصدمة، قلن عن فلسطين: "إن شاء الله ترجعلكم". قلت: "ترجعلنا قصدكم؟" ضحكن.. آه على زمن أضاع شبابه في الغربة، غرقوا في غيبوبتهم، ونسوا ماضيهم.. هل تنسى فلسطين بهذه البساطة؟