سلطة الناقد: من النابغة الذبياني حتّى إدورد سعيد (½)

  • فراس حج محمد

يشير معنى السلطة هنا إلى القوّة، والهيمنة، والتأثير. وقد شهدت المدوّنة الثقافيّة العربيّة العديد من الأمثلة التي تؤكّد هذه السلطة.

فعندما يعيد الدارس قراءة النشاط النقديّ في العصر الجاهلي على ضوء هذا المعنى، سيكتشف كم كانت حاضرة تلك السلطة التي قد فاقت سلطة المبدع ذاته، ومن أمثلة ذلك أحكام النابغة الذبياني النقديّة في أسواق العرب، لقد كان لقوله قوّة وهيمنة وتأثير، إذ كان ناقداً فذّاً مرهوب الجانب، يخافه الشعراء، ويحسبون لرأيه ألف حساب، ويسعون إلى المثول أمامه، حاملين جيّد شعرهم وجديده، للحصول على شهادات نقديّة تعلي من شأنهم.

 

كانت هذه الشهادات النقديّة تؤدّي إلى النشوة إذا ما توافقت وهوى المبدع. وإن حدث العكس، سيقرأ الدارس عبارات من قبيل، سكت ولم يجب، وخنس فلان، أو انكسر، ولم يحر جواباً، إلى غير ذلك من هذه العبارات التي تشي بهذا التأثير. واستمرت هذه السلطة في العصور اللاحقة، وكانت سبباً في المشاحنات بين النقّاد والمبدعين التي قد تصل أحياناً إلى الهجاء المقذع، وكتب التراث حافلة بعشرات الأمثلة.

أسوق بعجالة موقف الشاعر الفرزدق مع الناقد عبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي، فقد بلغ الناقد مبلغه من الفرزدق، حتّى أغضبه، وهجاه، ومع كلّ ذلك لم يترك الناقد الحضرميّ دوره في تتبّع أخطاء الفرزدق حتّى أغضب الفرزدق ودفعه لأن يهجوه؛ معبّراً عن سلطة الناقد القوية فيه وفي المتلقين، ويبين صاحب كتاب الموشّح هذه السلطة بقوله: "وبلغ الفرزدق أن الناس يقولون: قد أقوى الفرزدق، ولم يبلغه بعد أن قائله ابن أبى إسحاق، قال: فما بال هذا الذى يجر خصييه فى المسجد- يعنى ابن أبى إسحاق- لا يجعل له بحيلته وجها؟". في هذا التعليق يظهر مدى تأثير الناقد في المتلقي والمبدع على حدّ سواء.

وقد سبق في عهد عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- أن استعانت السلطتان السياسية والقضائية بسلطة الناقد لتثبيت أحكامها في الإدانة الجنائية، كما حدث مع الحطيأة عندما هجا الزبرقان بن بدر، فاستشهد عمر بن الخطاب بحسان بن ثابت؛ بوصفه ناقدا، عالما بالشعر، فكان من نتيجة هذه الاستعانة حبس الحطيأة. وكذلك تفعل السلطات القضائية في العصر الحاضر في الحكم على الكتّاب المتهمين بتهم الزندقة والتعدي على الأديان مثلا، إذ لا بد من وجود أهل المعرفة، وهذا أساس من أسس القضاء العادل.

ومن عجائب سلطة النقد الخفية المهيمنة ما يبدو في التعامل مع مجموعة القصائد الجاهلية التي تم التسليم لها في كل العصور على أنها أفضل الشعر، وهي "المعلقات". إن للناقد في هذه المسألة العابرة للأجيال والزمن تأثيره في كل من جاءوا بعده، فلم ينتقد أحد تلك القصائد، ولم ينقص من شأنها، ولم يسع أحد إلى أن يزحزحها عن مكانتها الرفيعة التي تبوأتها منذ عرفت أيام الأمويين وحتّى الآن. هل كان الناقد الذي اختارها خبيرا عارفا إلى هذه الدرجة من العلم واليقين؟ لا أظن ذلك، إنما يعود الأمر كله إلى تلك السلطة الخفية السحرية للناقد التي تدفع الآخرين عموما- إلا نادرا- على أن يتأثروا بها وبسحرها، فظلت المعلقات أجود الشعر الجاهلي، وتوارثت الأجيال ذلك، حتّى استقرّ في وعيهم أنها لا تضاهى، ولا تُنقض، ولا تُنتقد، وليس فيها أي عيب، وهي أعلى النماذج الأدبية التي لن يصل أحد من اللاحقين بها. إنها أصبحت "قصائد مقدسة" و"معجزة" لكثرة ما قيل حولها، ولكثرة الدراسات والأبحاث التي تناولتها قديما وحديثا على ضوء المناهج النقديّة المختلفة.

استمرت سلطة الناقد متقدمة على سلطة المبدع حتّى مجيء المتنبي. في ذلك العصر تنازع الناقد والمتنبي القوّة والهيمنة والتأثير، ولم تعد أحكام الناقد على كثرتها التي جاءت في مؤلفات طويلة وتفصيلية أن تزحزح من سلطة المتنبي الشعرية، وإلى الآن، أعتقد أن المتنبي ذو تأثير قوي جدا في الناقد بحيث يجبره على أن يتورط جماليا في عالمه الشعري، ويتحول الناقد إلى مجرد خادم مطيع يؤكد سلطة المتنبي الشعرية. لا يعود ذلك إلى تفوق الأنا لدى المتنبي وتراجع أنا الناقد العارف البصير، بل لأن الناقد كان ينقد المتنبي وهو بين خيارين؛ إما أن ينال منه، فيفشل، وإما أن يمدحه فلا يزيد إلى سلطته سلطة إضافية، فيتحول الناقد إلى ظل يسير وراء راحلة المتنبي حافيا لاهثا، لم يستطع اللحاق به.

لقد كان كلا الفريقين بائسا جدا في تلك المرحلة من النقد، على الرغم من أنها أنتجت العديد من الكتب النقديّة المهمة، إنما أتحدث عن شخصية الناقد ذاتها، وإحساسه بالضآلة والضعة أمام المتنبي، فكثير من النقد آنذاك لم يعوض هذا النقص في السلطة المفقودة، وبقي المتنبي كما وصف نفسه: "أنام ملء جفوني عن شواردها// ويسهر الخلق جرّاها ويختصمُ". إنه هنا بالضبط يعرّض بالنقّاد ويسخر منهم، لأنهم يسيئون فهمه، ويحاولون "اغتياله"، فلا يقيمُ لهم وزناً، فتجده يقول في موضع آخر معرّضا ومنتقداً: "وكم من عائبٍ قولاً صحيحاً // وآفته من الفهم السقيمِ"، فلعله يلفت النظر إلى أهمية التدقيق والتمحيص، فشعره ليس سهلا وإنما يحتاج إلى درجة عالية من الفهم والإدراك.

كما أن المتنبي كان طاغياً في سلطته بحيث أطفأ كثيرا من وهج شعراء كبار عاشوا في زمنه، ولم يحظوا بمعشار ما حظي به. إنه حالة نادرة في هذا السياق من الثقافة العربية، وبدلا من انتقاده توجّه الدارسون والشعراء إلى شرح قصائده، فوجدت شروح متعددة، ولعل أهمها في الدلالة على استحواذ السلطة الشعرية شرح الشاعر أبي العلاء المعري لديوان المتنبي تحت عنوان "معجز أحمد" مع ما في هذا العنوان من توطيد لسلطته التي اشتبهت بمعجزة القرآن الكريم البيانية.

هذه السلطة الإبداعية المتفوقة على سلطة الناقد لم تعد موجودة حتّى مع أكثر الشعراء شهرة بعد عصر المتنبي، فثمة ما يقال حول أشعارهم، وينجح الناقد في جر المبدع لأن يدافع عن نفسه، وإذا ما أخذ الكاتب في الدفاع عن نفسه، فقد تجرد من سلطته، وسلم أمره للناقد يقوده حيث يريد. لم يكن المتنبي يفعل مثل هذا الأمر، ولم يُؤْثر عنه سوى الإهمال الكامل للنقّاد.

اليوم اختلف الوضع كثيراً؛ إذ أصبح لدى الكاتب شهادات إبداعية شارحة، يحاول فيها اتقاء شر النقّاد أو تخفيف سلطتهم أو تأكيدها من حيث لا يدري، وحوارات يفسر فيها إبداعه، ومقالات يحاول أن يكون فيها حكيما، ليخفف من أثر النقد وسلطته عليه. وعلى الرغم مما يقال عن الشاعر أدونيس في أنه لا يحفل بآراء النقّاد ولا يهتم بها، إلا أن سلطته الإبداعية منقوصة نوعا ما، لأنه واقع بما وقع فيه الكتّاب جميعا من كتابة المقالات الشارحة والكتب التفصيلية، والشهادات الإبداعية وإجراء الحوارات والمقابلات التلفزيونية والصحفية.

وإذا ما تجاوزت الحديث عن المبدع واختلاط دوره ما بين الإبداعي والنقديّ، وتحدثت عن سلطة الناقد اليوم بشتى صوره؛ الناقد الصحفي، أو الناقد المقالاتي، أو الناقد الأكاديمي، سيجد الدارس أن للناقد تأثيرا قويا في الحياة الثقافية والأدبية، فآراء النقّاد تساهم في زيادة نسبة مبيعات كتاب ما، وهذا تجلٍ من تجليات سلطة الناقد، كما أن الآراء الانطباعية في أي كتاب ستكون متأثرة بما يقوله ناقد معروف، فيأخذون يرددون قوله، ويتبنون آراءه، وتتمتع مقولاته وأحكامه النقديّة بالثبات، وليس فقط عند الناقد الانطباعي بل ربما تجاوزتها إلى التأثير في النقّاد الجدد أيضاً، كما هو الحال مع الناقد الفلسطيني فاروق وادي الذي ما زال كتابه "ثلاث علامات في الرواية الفلسطينية" مرجعا أساسياً فيما كتبه عن الروائيين الثلاثة: إميل حبيبي وغسان كنفاني وجبرا إبراهيم جبرا، وضاقت المساحة كثيرا ولم تعد تجد مكانا بارزا لروائي جديد غير هؤلاء، على الرغم من أن الأسماء الروائية كثيرة، لكنها لم تستطع أن تحتل ما احتله هؤلاء الثلاثة بفعل ما كتبه وادي عنهم.

كما ساهمت آراء النقّاد في دعم الكاتب المتقدم لنيل جائزة أدبية أو رفضه واستبعاد أعماله. عدا أن حكّام الجوائز الأدبية هم نقّاد، وإن لم يكونوا نقّادا أصلا إلا أن مهمتهم تلك في الحكم على الكتّاب وتصنيف أعمالهم في مراتب، وتمرير أحدها ليكون أولا هي سلطة نقديّة، ولذلك تجد أحيانا أن الكاتب يحاول عقد صداقات مع هؤلاء النقّاد، لعله يفوز بجائزة من تلك الجوائز. ولعل أكثر الجوائز موضوعية هي الجوائز التي لم يكشف فيها قبلا عن أعضاء لجنة التحكيم.

لقد اكتسب هؤلاء النقّاد المشكلون للجان التحكيم الكثير من العداوات، واتهموا بالكثير من التهم من أولئك الذين لم يفوزوا. وكتبوا في ذلك مقالات معبرين عن سخطهم، إنهم بذلك يحاولون التقليل من سلطة الناقد وتأثيره في الكتب التي لم تفز، ومحاولين في الوقت ذاته استرداد شيء من سلطتهم المهدورة على أبواب الجوائز. كثير من الأدباء فهموا هذه المعادلة جيدا، فلم يتقدموا لأية جائزة محلية أو إقليمية، حرصا منهم على ما لديهم من سلطة إبداعية ترفُّعية لا تخضع لأذواق النقّاد وأحكامهم التي اكتسبت معنى السلطة وقوتها، ورفضا لمنطق تسليع الإبداع، وجعله مجالا للمساومات غير المنصفة، فعدم فوز كتبهم يعني أنها ستتدحرج إلى الظل، وتُنسى، ولن يلتفت إليها أحد إلا نادراً.

إن للنقد أحيانا بعدا اقتصاديا واضحا، فالقراء يقبلون على أعمال القوائم القصيرة وعلى العمل الفائز، عدا ما يكسبه المبدع من أثر نتيجة هذه العملية النقديّة، من شهرة، وتمدد معرفي، يعود الفضل فيه إلى الناقد أولاً، فقد أفلح الناقد في جر المبدع إلى دائرة غير إبداعية، وإلى إخضاعه لمنطق غير إبداعي في نهاية المطاف. عدا أن للناقد دورا مفصليا في الحكم على مخطوطات الكتب الواردة إلى دور النشر التي تحترم عملها، فلا بد من أن تجاز من لجنة خاصة، وهذه اللجنة ذات مَهمة نقديّة في الأساس، لأنها تقدم حكما نقديّا بالإجازة أو الرفض، وهاتان الكلمتان: الإجازة أو الرفض هما السلطة بطرفيها؛ سلبا وإيجاباً على المبدع المنتظر مثل هذا القرار.

يحتاج الكاتب إلى الناقد "احتياج ضرورة"، فلا يكفي أن يكون العمل الفني جيدا في ذاته، وخاصة مع كثرة الإنتاج الفني بأنواعه وأشكاله وتعدد بيئاته وكثرة الداخلين إلى ساحاته والمتعلقين به. إنه يحتاج مع جَوْدة العمل الذاتية ناقدا جيدا وبارعاً، ليمنحه السلطة الإبداعية، فكأن ذلك الرأي النقديّ هو تأشيرة دخول إلى عالم القراء، والحضور الإعلامي، والتفاعل مع العمل نفسه.

لعلّ اهتمام الناقد بعمل أدبي ما وقراءته يمنحه الكثير من الأهمية، ومن أجل هذا يسعى الأدباء إلى إهداء كتبهم إلى النقّاد، لأنهم يريدون أن يستمدوا "سلطة" إبداعية من سلطة الناقد، فصار معروفا أنه كتاب نجاح ذلك الكتاب الذي تعرّض له نقّاد كثيرون بالكتابة عنه أو الإشارة إليه، أو الاقتباس منه. إن هذا يُحدث نوعا من النشوة المحببة لدى الكاتب، وهو يرى أن الآخرين يعتاشون على أفكاره ويساهمون في تأسيس سلطته الإبداعية وتشريعها، ولذلك تجد بعض الأدباء يشنون حربا على النقّاد إذا تجاهلوا إبداعهم، ولم يحفلوا بها، كما يشتمّ من قول الشاعر الفلسطيني حاتم جوعية في قصيدة له يصف الناقد في بيت من أبياتها بالأرعن: "وإنّني شاعرُ الأجيالِ قاطبةً // كم ناقدٍ غارَ مِنِّي أرعَنٍ خرقِ".

أرشيف فلسطين الشباب