الرابعة فجراً،
الآن ينام المريض الذي أفنى نهاره خلف الله و الطبيب و الممرضة، يسألهم الشفاء.. ربما على الكرسي ينام ابنه أو زوجه، أمه أو أخته، أو ربما هو وحده، كالشاعر الحزين في الطرف الآخر من المدينة، بجانبه قنينة خمرِه و خيالاتِه، ينام الآن على الرصيف مطروداً، بعد أن ظن الجميع أنه فقد عقله حين قال :
" أين أنت يا الله .. أين أنتْ ؟
و الطفلُ يموت لا يجد الرغيف
و المالٌ رملٌ في يدِ الرجلِ السخيف ...
أين أنت يا الله ... أين أنت ؟
أتركتنا و نمتْ ؟ "
المجنون السكران على رصيفه.. و ضوءٌ أحمر ينعكس على القنينة من شباكِ البناية القريبة، زوجان ينامان على سريرٍ بارد.. مضاجعة فاشلة، بعد حبةٍ زرقاء و تأوهات مصطنعة.. رجلُ المهر العالي و المرأة التي أجبرها والدها عليه، لأن الحب لا يُسمِن ولا يُغني و لا يُتفاخر به في مجالس الكبار، فهو " مجرد صحفي مبتدئ " ، و " عادتنا و تقاليدنا لا تعترف بالحب، و إن سمعتُ مِنكِ كلمة أخر ، أقسم بالله أن أجعلك عبرة لكل عاشقي الأرض" .. العاشقان ناما أيضاً قبل ساعتين ونيّف، بعد أن دسّا الكلام في ذاكرة الليل، و هرّبا قبلةً سريعة عبر الهاتف .. و " - إنهِ أنتِ المكالمة - لا ، أنهِها أنتْ "
كلاهما يبتسم ، قد تستمر الابتسامة حتى صورة الزواج، و قد تنتهي بعد شهر أو شهرين أو عام أو عامين، و لكن الابتسامة الوحيدة التي ستستمرُ أبداً هي ابتسامة مدير شركة الاتصالات ..!
الشركة التي يحرسها الآن ذلك الأربعيني الغافي في هذه الليلة الهادئة، يريد أن يسرق دقائق تعينه على عمله الصباحي في مخبز السوق، فعمل واحد لا يكفي لإعالة أربعة أطفال و بِكْرَه الذي لم يجد عملاً بعد، و إبنته التي فاتها قِطار الزواج .. لأن "أبوها فقير و ليس لهم باع ولا ذراع، يعيشون على إعانات المحسنين و أصحاب القلوب الرحيمة " .. كهذا العجوز الذي سيستيقظُ بعد قليل كي يصلي نافلة الفجر ثم يخرج إلى المسجد، بعد أن تاب إلى الله عن خمسين سنةٍ ماضية قضاها في سرقة أموال الناس!
الرابعة فجراً،
و الذين لم يناموا بعد، لأن النهار يقهرهم، فيهربون إلى الليل، منهم من يهرب إلى الله في يأس، و منهم من يهرب منه في كأس، الذين لم يناموا بعد، الوحيدون .. الشاحبون .. المدخنون شاربو القهوة، الكاتبون على الورق أو الراسمون عليه .. القارِئ .. والباكيات الساهرات.. في عيونهنّ " المطر الأسود يتساقطُ زخاتٍ زخات " ..
السارقون على أسطح البيوت، المرابطون على الحدود، الطالب المُجّد المجتهد، الساجد الراكع، السامع لموتسارت و المستمتع مع أمِّ كلثوم، المشاهد لفيلم رعب و اللاهث خلف البورنو، العامل الذي لم ينم بعد، أو الذاهب إلى عمله مبكراً يسابق رزقه .. الخارجُ من البلاد أو العائدُ إليها ..
إلى غُربة و من غُربة ..
الرابعة فجراً ،
و أنا ..