تَذكّر بصوتٍ مرتفع

  • عبد الحكيم زغبر

في مثل هذه الساعات أو أقرب، كان الجندي بكامل عتاده متمترس خلف أطنان الحديد والخوف، يحاول ألا يفكر في أي شيء يلهيه عن دكّ عمارة الحيّ الطويلة،


مستلهماً تصميمه هذا على الدمار، من قدرته العظيمة التي مكّنته قبل ليلة من الانتهاء من مسجد المنطقة الذي يعكّر مزاجه ورؤيته أحياناً، ومن ضمن الأسباب أيضاً نومه مخموراً قبلها بعدة أيام من كثر ما تلعثم في عدّ القذائف التي ضربها في الساعة الأخيرة قبل الهدنة المؤقّتة؛ هدنة مؤقتة، بعد أسبوعين من إحكام إغلاق جهنم على الحي، تم التوصل لحل أزمة شبق الجنود.

ثلاث ساعات وسط النهار تكفي لأن يتناول وجبته كاملة، ويُضاجع المجنّدة التي تَقود الدبابة، وتُقوّد مع باقي الدورية، وبقية من الوقت تصلح لقيلولة.

كان أبعد ما يمكن حينها أن أفكر ولو قليلاً بهذه التفاصيل خاصتهم. وأنهمك انشغالاَ في البحث عن شحنة كهرباء تسد عطش هاتفي النقال كي يصمد حتى "حصاد اليوم"، وأصعد سطح البيت لا بحثاً عن الطائرات الصغيرة بقدر ما هو استجداء لمواسير المياه في أن تُساير المعجزات وتأتينا ببضع لترات كي لا نضطر لتأجيل الدخول إلى الخلاء يوماً إضافياً.

نتقاسم المهام ويحمل أحدهم على رأسه "فرش العجين" نخبزه على قشّنا وفرن الجيران الطيني، والجيران ساعة الحرب أجرأ من أعظم المحللين السياسيين، لذا تسودّ الأرغفة لقلة الاعتناء أثناء طرح توقعاتهم لنهاية الحرب. ومثلما لم تنتهِ الحرب إلى الآن، لم تنتهِ الثلاث ساعات وقتها، مازال في الوقت ما يكفي لإشعال سيجارة مع صديق يسكن في نفس الحي، نشْتم إن تذكرنا البعيدين ونتضامن إن تلفتنا يميناً أو شمالاً.

ثمة ما يُذكر هنا، أن قصف بناية جديدة، لا علاقة له بالهدنة لا من قريبِ أو بعيد، وإن سمعت صوت انفجار حاول أن تهزّ خصرك لا قلبك، وحاول أيضاً أن تنسى قصة الثلاث ساعات تلك، وعدّ للبيت أو للخندق.

في البيت ـ في بيتنا تحديداً ـ أشقائي لاجئين من الحي المجاور، متمترسين خلف سرير رجلِ يكبر النكبة بخمس سنوات ويصغر أصغرنا بعشر كيلوغرامات، يتناوبون على تلاوة القرآن بتعدد النوايا بين درء السرطان وجلب الانتصار.

كان قد مضى على السرطان في جسده أربعة شهور، وفي جسد الأمة العربية واحد وستون عاماً. هو، أسلم روحه قبل عام، وغزة في طريقها مثلما عودتنا دائماً: إلى النار.

ملاحظة: هذه ليست كتابة.. هذا تَذكّر بصوتٍ مرتفع

أرشيف فلسطين الشباب