عن نضال الملح والماء

  • سمير الأسعد

هو شخصياً لا يحب الملح ويأكل طعامه حلواً،

ضغط دمه دائم الارتفاع يصيبه بالصداع ويهدد صحته وراحة باله، معظم الأطباء حذروه من الإفراط في الفرح أو الحزن والابتعاد عن المشاكل ومصادر الهموم، واليوم قرر الانخراط في الإضراب مهما كانت النتائج، لن يتخلى عن زملائه ولو فقد حياته.

الاعتماد على الملح والماء فقط  لن يكون في صالحه.

لا ينكر أنهم نصحوه بل توسلوا إليه محاولين إقناعه بالعدول عن موقفه قائلين:

- نحن نقوم بالمهمة على أكمل وجه، أما أنت فلست مطالبا بشيء أبدا ، انت مريض وليس عليك حرج ، ارحم نفسك وارأف بأولادك وزوجتك، قد يأتي يوم قريب تخرج فيه بصفقة وتفوز بحريتك ولعله يكون قريبا، دورك أن تشحذ همم الأسرى خاصة صغار السن منهم ممن لم يخوضوا الإضراب قبل ذلك، نحن نعتمد عليك كثيرا كونك أسير قديم ولك الخبرة والحنكة، وأنت مثل يحتذى به ولك ماض مشرّف داخل السجون والمعتقلات.

لم يبد على أبو صمود أنه اقتنع وازداد عناداً وهو يقول :

- لن اقبل ان أكون قوقعة محشورة في الزاوية ولن أتنازل عن المشاركة ولو كلفني الأمر حياتي.

لم يجد مسئولو التنظيمات داخل المعتقل سبيلا لإقناعه، فتوزعوا على جميع الأقسام ليقوموا بواجباتهم  التنظيمية يشرحون لبقية زملائهم ما هم مقبلون عليه.

- سنقوم بعملية احتجاج واسعة و سنستخدم سلاح الأمعاء الخاوية في موقعة حياة أو موت: حياة أفضل أو موت مشرّف.

التحضير للإضراب احتاج ثلاثة أشهر على الأقل وهم يهيئون الأسرى معنويا ويزرعون في عقولهم القناعة ثم التصميم.

- سنربح المعركة رافعي الرؤوس.. ولن ننكس أعلام الرفض والتحدي.

آلاف الأسرى يخوضون إضرابا طويلا كما هو متوقع من أجل تحسين ظروف معيشتهم ومن أجل الحفاظ على كرامتهم وعزتهم.

بدأ اليوم الأول، الإعلان والإمساك عن الطعام والشراب باستثناء الماء والملح، وعند العصر نظر قائد الإضراب ابو مريم الى جسد أبو صمود المسجى على البرش، عيناه مغلقتان، تنفسه بطيء ويبدو على وجهه التعب، عند أذان المغرب بدأ لغط وأحاديث متفرقة بين الأسرى، يتذكرون رمضان.

- حان وقت الإفطار.. ولكن هنا إفطار متأخر قد يأتي وبعضنا قد فارق الحياة.

حاول أبو صمود القيام من برشه والذهاب الى دورة المياه، ارتعشت قدماه تحته ورجع جسده الى الخلف ، فأمسك بعمود الخيمة وهو يتأوه، أسرع  إليه أحدهم وأمسك بخصره.

- لا تنهض مرة واحدة يا زميلي.. والتزم بالإرشادات.

- الظاهر أن الضغط عندي ارتفع.. أشعر بالغثيان.

كانت الخيام تحترق بلهيب الصيف القاسي، صيفا لم يمر مثله كما تقول الأرصاد الجوية، كانت دورة المياه بعيدة في طرف القسم الشمالي.. ترتفع عن مستوى الخيام ويصعد إليها بسبع درجات، تبدو مسافة طويلة ومضنية لمن لم يتناول الطعام منذ الصباح إلا قليلا من الملح كي لا تفسد المعدة وتتعفن ، والماء حار في براميل بلاستيكية تغطيها أكياس الخيش.

بدا أبو صمود متهالكا وهو يسير ببطء شديد يتكئ على اثنين من زملائه، كانت التعليمات تقضي بعدم المشي كثيراً والسير ببطء شديد لقضاء الحاجة فقط.

- يجب أن نظهر الإنهاك والتعب حتى لا يتم تصويرنا وتسجيل نقطة علينا يتم استغلالها في المفاوضات ونقلها لمندوبي الصليب الأحمر كما حصل في المرة السابقة.

سارت الأيام بطيئة تحمل حر الشمس على ظهرها وتسلطه على أجسام الأسرى، وفي صباح اليوم الرابع أعلن الأسرى أنهم سيقومون بالعد الصباحي والمسائي وهم نيام لأن العد في وضع الجلوس أصبح صعبا وستقتصر حركتهم على الذهاب للحمامات فقط .

الحرارة الشديدة قلبت الخيام إلى أفران في النهار والليل وهبت رياح خماسينية جافة زادت من معاناتهم وسحبت السوائل من أجسادهم عادلتها المياه الساخنة التي يشربونها .

حوالي الساعة الحادية عشرة صباح اليوم السابع انتبه الأسرى لصفارات الإنذار التي صمّت آذانهم وارتجت لها قلوبهم، فانطلقوا إلى خارج الخيام وعمّ الإرباك وهو يشاهدون أعداد كبيرة من الجنود في كامل عدتهم يرتدون الأقنعة ويحملون بنادق إطلاق الغاز يتبخترون بمشية عسكرية ويطلقون أناشيد القتال، أحس جميع الأسرى بقوة شملتهم بغتة وانسل الإرهاق من أجسادهم وكأن

شيئا لم يكن وخرجوا إلى الساحة. كان أبو صمود يقف شامخا ويصرخ بأعلى صوته:

- تورانيم.. استعدوا للقتال.

كان أصغر أسير في القسم يقف بجانب أبو مريم فأمسك بيده وهو يسأله:

- ما هي التورانيم؟

أجابه أبو تغريد بسرعة: "هم مساجين يهود جنائيين في أقسام خاصة بهم، يتم استخدامهم للقمع عندما يتعلق الأمر بنا، جهز نفسك لتتقي خطر الغاز كما تعلمت".

شعر كل الأسرى بقوة خارقة تجتاحهم وبأن لديهم طاقة لا متناهية في أجسامهم التي ألقت عنها الوهن والضعف  وتحولت إلى كتل من العزيمة تجري فيها دماء حارة صلبة.

استمر العرض العسكري العنجهي ساعة من الزمن قبل أن يصدر أمر بالانسحاب، وجميع الأسرى يقفون خارج خيامهم يتشربون أشعة الشمس الحارقة، وعندما اختفى آخر جندي من جنود القمع بدأ الأسرى في كل الأقسام يكبرون ويهتفون لفلسطين وأصواتهم تصل خارج الأسوار والبوابات التي يحيط بها مئات من أهاليهم ومن المتضامنين معهم، الذين اشتركوا معهم بهتافاتهم وهم يرفعون الأعلام  وصور الأسرى المضربين.

وفجأة ألقيت قنبلة دخان داخل القسم والقي غيرها على جميع أقسام المعتقل السبعة ، فحدث إرباك وتدافع، وزاد الأمر تعقيدا حين أطلق جنود أبراج المراقبة  الرصاص في الهواء.

دخل الجميع الى الخيام واختبئوا تحت الحرامات والملابس كي يتقوا سحب الغاز ، ومنهم من حاول إغلاق الخيام منعا لتسرب الغاز.

تناثرت بعض الأجساد في الساحة، فاندفع البعض وهم يغطون أنوفهم بملابسهم وجروهم إلى داخل الخيام القريبة، وفي خارج الأسوار تفرقت الجماهير المحتشدة وابتعدوا عن تأثير عشرات قنابل الغاز التي ألقيت باتجاههم، بعد حوالي نصف الساعة انقشعت سحب الغاز، فخرج الأسرى من خيامهم وتقدمهم أبو مريم وهو يبحث عن أبو صمود هاتفا باسمه. اقترب ممثلو القسم من البوابة الرئيسية تجاه مدير المعتقل الذي وقف وهو يحيط وجهه بقناع يحميه من الغاز يحيط به عدد من الضباط والجنود، فصرخ به أبو عذاب طالبا منه إحضار طواقم الإسعاف وإخراج المصابين.

كان أبو صمود مستلقيا على ظهره داخل إحدى الخيام جاحظ العينين، فحمله أسيران بسرعة وادخلوه عربة الإسعاف التي وصلت باب  القسم مع ثلاثة أسرى آخرين.

تحدث مدير المعتقل مع أبو عذاب ممثل المعتقل الرئيسي وحذره من تكرار ما حدث، إلا أن أبو عذاب أخبره أن جميع الاسرى مستعدون للموت إن تكرر الاستفزاز وضايقوا الأسرى المضربين مرة أخرى، وشدد على أن الإضراب هو احتجاج سلمي من أجل تحسين أوضاعهم.

استمرت الأحداث كما هي: الأسرى يطالبون الإدارة بالحديث معهم من أجل إنهاء الإضراب والإدارة تطالبهم بحل الإضراب وتناول الطعام أولا ثم التفاوض.

حاول ممثلو القسم معرفة مصير أبو صمود إلا أن الإدارة تكتمت ورفضت الإدلاء بأي تصريح حوله. في اليوم الحادي عشر للإضراب انتشرت إشاعة تقول أن أبو صمود استشهد، إلا أن الخبر لم يؤكد وتسرب خبر من مستشفى السجن يقول أنه يعيش ولكن على الأجهزة.

في اليوم العشرين سمح لممثلي الصليب الأحمر بدخول المعتقل ، وبعد أن اجتمعوا مع إدارة السجن طلبوا ممثلي الأقسام، فاجتمعوا معهم وأخبروهم أن إدارة المعتقل قد تفاوضهم خلال يومين بحضور مندوبيهم، وعندما سألوهم عن أبي صمود جاء جوابهم ضبابيا دون تفاصيل أو تأكيد لحالته.

في اليوم الثالث والعشرين أدخل المستشفى عشرة أسرى تدهورت حالتهم الصحية، وفي مساء نفس اليوم أبلغ الصليب الأحمر الأسرى بأن إدارة المعتقل تراجعت عن مواقفها في الحديث مع الأسرى قبل أن يحلوا الإضراب بالكامل.

في اليوم الثامن والعشرين دخل عدة ضباط مخابرات كبار على غرفة العناية المركزة داخل مستشفى عسكري خاص ملحق بالمعتقل يرافقهم طبيب اقترب من جسد النزيل الوحيد الذي تربطه أسلاك وأجهزة طبية تحيط بسريره، فتح الطبيب ملفا يحمل اسمه وصورته، وأشار إليه وهو يقول

-  حالتك الصحية تحسنت عن ذي قبل، لهذا سنبدأ الآن تغذيتك حتى تعيش وتمضي بقية محكومتيك، الأمر صعب للغاية وعليك أن تحتمل.

ارتجف جسد أبو صمود وترددت صرخة في أعماقه والطبيب يباشر عمله، ما كان يخشاه في اسوأ كوابيسه يحصل الآن وهو في أضعف حالاته، لم يقتله الأسر أو الماء والملح أو الغاز ولكن سخرية القدر قد ترخي جدائلها وتقضي على أبسط حاجاته من الغذاء الذي سيتناوله قسريا والذي سيقتله حتما.

أرشيف فلسطين الشباب