ضحكة في وجه الافتتاحية

  • وديع حنني

كانت حزمة الأوراق قد تلوّت بين يديه بطريقة استفزازية . أصواتها المكتومة تنبؤ بتصرف مجنون سيقدم عليه،

نظر إلى الفتاة الجميلة الجالسة بجواره و التي كانت تراقب الأوراق وعينيه التائهتين.

سألها بلغة وسيطة بينهما عن الساعة التي سيصل فيها القطار حيث ستنتهي رحلته ، أجابته بسؤال

_ هل هذا مهم جدا بالنسبة لك ؟

أمعن النظر في عينيها، تبادلا ابتسامة اتفاق ضمني، نهض من مقعده، فتح النافذة، فاسترسلت الريح تعبث بأشياء الركاب ورتابة إيقاع الحديد، ونظراتها التي تيقظ أسئلة متعبة.. اخرج رأسه من النافذة، مدَ ذراعه في الفراغ المتسارع بجوار القطار، وأطلق سراح جميع الأوراق فانفلتت تتشظى وتتطاير في المساحات المفتوحة في هذه الأرض الغريبة .

لم يكن البحر يعنيه كثيرا.. كان يشتاق جدا، وكم تمنى لحظة مثل هذه يقطع فيها جغرافيا لا يسدها إلا الأفق.

لم يكن القطار يعني له شيئا، ولا الفتاة التي سألها وابتسم لها دون تردد، ولم تكن تعنيه هذه البلد الغريبة أيضا، كان منتشيا بقدرته على التخلص من أجمل ما كتب مؤخرا بكل هذا العنفوان.

قالت له بعد أن أغلق النافذة وجلس مرتاحا بهدوء:

ـ علق بعض الحبر من أوراقك على أصابعك

تفقد كمن يكتشف بالصدفة جثة بين يديه ثم أجابها دون أن ينظر إلى وجهها:

_ هذه آثار دماء

سألته دون أن تكف عن النظر إلى بقايا الحبر

؟  _ أتكتب الشعر

أجابها بتلقائية:

_ بل أتلاعب بالحكاية

وحرك أصابعه كمبتدئ يعزف على البيانو.. أسدلت زفيرها بضحكة هستيريه مزقت رتابة طريقة أهل هذه البلاد في السفر صامتين ثم صمتت واستغرقت تفكر في جملته الأخيرة ، لتنضم إلى شهامة الركاب المأخوذين بالتفكير في جملهم التي عاشوها يوما .

ارتدى صمت نشوته هو الآخر وراح يبحث في حقيبته الصغيرة بين عدة مجلات أدبية عن تلك التي يلاءم مقاس كلماتها رغبته بوطن، أخرج اثنتين وانزل حقيبته على أرضية القطار، تردد للحظة كعادته في تبني كل شيء، وأخيرا اختار واحدة تاركا الأخرى بانتظار عودته الحتمية.

هاهو يقلب صفحات مجلته والغريبة الجميلة تسترخي في مقعدها بينما المقاعد صامتة.. رجل في أول القاطرة نهض بهدوء ، وقف مشدودا في مكانه كقائد عسكري، وزّع نظراته المتحفزة في وجوه الركاب كمن يستعد لإلقاء خطاب الموت أو النصر، تناول كمنجته عندما تأكد أن عددا معقولا من الركاب ينتظرون نبوءته، تراكم توتر في عينيه الكبيرتين، داعب لحيته البيضاء، رمش بعينيه عددا لا يحصى من المرات، ثم أغمضهما كأنه يصغي لوحي عابر، مال بجسده قليلا واضعا العصا على أوتار الكمان، وفي لحظة ما "مسروقة بتأني" بدأ يعزف مغمضا، متلويا، واثقا من وجود عدد لا بأس به من الكسالى المزروعين في مقاعدهم، يلهون في هذه اللحظة بذكرياته الشعورية وربما يستمتعون .

لم يكن بحاجة إلى أن يشير بإصبعه للعازف ليقول: هذا الرجل خسر كثيرا، لكنه يتقن أن يحكي حكايته يتقن قص حياته علينا.

لم تكن بحاجة إلى أن تبقى مسترخية في مكانها دون أدنى التفاتة إلى العازف أو إليه لتعبر عن عدم اكتراثها.

لقاءهما ليس سوى نقلة عفوية للاعب شرد ذهنه عن بقعة الخلق، فكاد الملك أن يقتل، هي صامتة تتقلب على مسرحها الآن كراقصة باليه أصابها " المغص "، هو مشدود للعازف القادر بحكمة _موسيقى تعيد ترتيب الفراغ_ على خلق مسرح لم يكن ليحظى به في المسارح دور العرض .

ـ يا غريب

همست له، وعدّلت وضعية جسدها مستديرة بالكامل نحوه، اقتربت بوجهها الغاضب من عينيه الجاحظتين وسألته.

_ ما الذي تريده مني، اتستدرجني لأكون شخصية في قصتك القادمة؟  أنا لست لك ولن أعيش إلا بجوار فاصلة أنا اخترتها.

كان العازف في تلك الأثناء قد جف لحنه وبدأ بجمع القليل من المال من الركاب في قبعته المهترئة، بينما كان هو يراقب صهيلها بقربه وبطريقته المستفزة يقلب صفحات المجلة.

_ احكي عن الحياة أو اقرأها أو عشها، لك ما شئت، ولكن اترك لي أن انهي رحلتي على طريقتي.

استمر يقلب صفحات المجلة، بينما هي تنظر وتنتظر، تناول المجلة الثانية التي لطالما كتب لها وقليلا ما نشرت.

_ انتم تخترعون كتاباتكم لمجرد التعويض عن حياة فاتتكم

كانت عيناه تنزلقان ملاحقة  سيلان الأسطر في صفحة الافتتاحية في المجلة، رأى اسمه مضرجا بالحبر الأسود المغمق وجائزة النص الأفضل بجواره موشومة بالدولار، لم يعد قادرا على الانتباه لأنفاسها بجواره، وصليب كلماتها المطلقة نحو صدره، استدار نحو وجهها دفعة واحدة، وبثقل الكيمياء التي تفصل بين ذكورته وأنوثتها، أفلت ضحكة معربدة من عنقه الاجرد الطويل، رفع المجلة في أوجه الفضوليين واستمر يتألم ضاحكا.

أرشيف فلسطين الشباب