صَرخَةٌ وتُسلَب

  • حلا النتشة

ليسَتِ الحربُ مسألَةَ وقتٍ في جانِبها الإنساني؛ إذ لا دقيقةَ تُعيدُ مفقوداً أصابَهُ سَهمُ القَتلِ غَدراً، لكِنَّها حتماً –وبِإدراكٍ واعٍ لسلسلةِ الدَّمِ الجاري دونَ وَجيفٍ يُوقِظُ غَضَبَ الأُمَّة-

رِبحٌ ثَمين لتسلُّطِ الطُّغاةِ: القاتلينَ والمُساهمينَ على حَدٍّ سَواء، الصَّامتينَ والمُراهِنينَ، والعادِيُّينَ يتعرقلونَ بهالاتِ الرَّاحةِ النَّفسيَّة وأثَرِ الصَّدمات على ضمائرِهم المُستترةِ في أقبيةِ العَتمة، متناسينَ الطَاّمَّة الكُبرى في خاصِرَةِ البِلادِ. .  على أيِّ الأحوالِ، لن تُجدِيَ محاولاتُ جَرِّ الغَضَبِ وسَحبِهِ من عَقلٍ خامِل.. ولو أنَّ شعوبَ العالَمِ تتململُ شيئاً فشيئاً في حَرقِ العُنوانِ المختومِ على جبهاتها لتتحرَّرَ من روايَةٍ ألقموها إيَّاها لتبصُقَها في وُجوهِ المُخالفينَ، مُغيَّبة، وذا عَزاءٌ بسيطٌ يُغافِلُ بسماتِ المكلومينَ الثَّكالى بينَ جُثَّتين؛ ولا يَسلو ذاكِرَةَ الفقدِ المُنفرِجَةِ في بؤبؤي طِفلٍ ما إن أبصَرَ حياتَهُ أحرقتْ وجنتيه، لذا فالوقتُ لن يَحُلَّ عقدَةَ المُستغيثِ من خيمتِهِ بصاحِبِ القَصرِ العاجِيِّ إلَّا أن تستنهِضَ كلماتُهُ أو دموعُهُ –والتي للآنِ لم تكنُس إلَّا عَطفاً في أغلَبِهِ مُفتَعَلٌ- حميَّةَ المختنقين أسفَلَ العُروشِ الرَّاسِخَةِ، يُطحَنُ أملُهُم بينَ أَثَرِ الثِّقَلِ وسوطِ الجَلَّاد.

 

أينَ تمضي بِنا المشاهِدُ المهيضَةُ، والجحيمُ المُصغَّرُ، والأرواحُ المسلوبَةُ قصراً؟ وكيفَ ننغَمِسُ بِغمارِ الاعتياديَّة ونحنُ ندَّعي وِحدَةَ العَبراتِ في المصابِ الجَلل؟ كيف؟

لا يَخسَرُ في قانونِ الحَربِ أوَّابٌ مِن هَولِ الضّنَكِ يَمدُّ كَفَّيهِ للأمَلِ أو النُّورِ الأبديِّ، ونوقِنُ ذلِكَ في وحدَتِنا المُفتَعلة، ولكِنَّ مَن بقي مِن بقيَّةٍ يُنادي، من يُجيبُه؟ من يَكتوي بثلاثِ أمانٍ وفيرةٍ عِندَ غيرِهِ ويجحَدُها، من يرميهِنَّ إليه؟ تكادُ الخسائِرُ تتحوَّرُ، تصيرُ خساراتٍ، الحقوقُ المشروعةُ تغدو طلباً مُستحيلاً. .  قوائِمُ تطولُ من أسماءٍ وأحشاءٍ ودُرَر، كيف نختزِلُها في رَملتينِ وقبرٍ منبوش؟

تدقُّ صَرَخاتُ الجنوبِ كُلَّ أُذُنٍ، كُلَّ جَرَسِ، تتهاوى الكنائِسُ والمآذِنُ ومنابِرُ الخُطَبِ والحديث، ولا "مبدأ" يستفزُّهُ ذلك، فالكلامُ سَهل، واليَدُ تطولُ على قريبٍ في الوَحلِ ذاتِهِ فحسبُ،  وكأنَّها مسألَةُ شَخصيَّة مسألةُ المَحو المُمنهج، أو ثأرٌ مع غريب، لن تُثنيهِ رماديَّةُ المُسالمينَ المُتمكِّنين.

تدقُّ صَرخاتُ الجَنوبِ بَردَ الشِّتاءِ، الفقرَ، العَجزَ، الصُّورَةَ، الصَّدى، الحدود، المعابِر، أوراق الشَّجر، شراسَةَ الكِلابِ الجِياعِ، ضياعَ الذِّكرى -بل وطمسها، تدقُّ حتَّى المَوتَ بحتميَّتِهِ وقَدَرِهِ المُباغِتِ العَنيد، ولا لَفتَةَ تقشَعِرُّ لها أبدانُ السَّامعين! ها هُم "يقرعونَ جُدرانَ الخَزَّانِ" فتترُكُهُمُ "مُعاهدَاتُ السَّلامِ" إمَّا لموتٍ أو تَهجير.

حيرَةُ بينَ مَوتين.

قَهرٌ بأسلاكٍ شائكة، من عهدٍ بائد يغرَقُ بدماءٍ لا تَعني أحداً، من بسمَتينِ وتصافُحٍ أمامَ أعلامٍ لا رَمزيَّة فيها ولا لَون/ سياسيَّة بامتياز، مسلوبَةُ الحِسِّ، ورُبَّما الصَّرخة. وبينَ بينينِ صَرخَةٌ وتُسلَب.

أرشيف فلسطين الشباب