حُلم هارب من الحقيقة

  • رأفت أبو الهيحا

غريبٌ بلون الرّماد

استيقظ بعد يومٍ طويل من التّعب، برأسه الثّقيلة حاول جاهدًا تحريكها يمينًا ويسارًا للتّخلص من دوار خفيفٍ عالق فيها أزعجه، مُدركًا بأنّه ينوي التّخلص من همومٍ ثقيلة أو على الأقل علّ هذه الأفكار السوداء تخرج مُتدحرجة من رأسِه فيدوس عليها مُعلنًا انتصارًا صغيرًا على نفسِه.

يُقاوم بلذّة لسع الماء البارد فوق وجنَتيه، يغسِل وجهه مرّتين، ثلاثة.. خمسة! لن يجرُؤ النّظر في المرآة الصّغير على يمينِه، قد تُؤذي عينيه البُقع الصّدئة في المرآة القديمة، لكنّ خوفه الأكبر أنّه غريب، غريبٌ كفاية ليفزع!

يغسل وجهه مرّة إضافية راجياً أن تذوب ملامحه فيعيش الغُربة مُطمئنًا حتى دون وجه يُذكّره بمن يكون..

تمنّى لو أنّه يملك قناعاً ليخدع الغُربة فيعيش كمُمثّل مُحترفٍ مُتقنًا دوره، كلّما حاول سقَط! تُرديه الوحدة في الفراش مُجردًا، ضعيفًا، غارقًا بملامح أصيلةٍ مبتورة.

في آخر لحظاتِ الهذيان، غطّت رائحة القهوة وجهَه واندثر مع رشفةٍ أولى يتراقص على أنغامِ ذكرى تُفتّت ما تبقّى من قلب، ابتسم دون صحوٍ برأسٍ فارغة من كلّ شيءٍ عدا لون البنّ ورائحةٌ لها ملامح أبديّة في وطن صغير!

 

كيفَك انتَ..؟!

" وما عدت شفتك.. وهلّأ شفتك

كيفَك انتَ ، "

أستحضرُ مُركزًا، مُحاولًا حصر الكون الّلامتناهي في عينيكِ فقط..

أقضي مُعظم الوقت في حُلم هارب من الحقيقة، في حلم يُجبرني بحنين على السّؤال: "كيفَك انتَ..؟!"

الحُروف الهاربة من دفتري الصّغير، ومن الحِبر الأُرجواني الجريء، تندثر في أقصى سطرٍ من الورقة البعيدة عن عينيكِ، تنكمشُ بروية معترفة بخضوع وبسمة: "كيفَك انتَ..؟!"

ليتك تمُرّين أمامي في لحظة خاطفة من العُمر البطيء، في مكانٍ أبعد ما يكون من حقيقة الّلقاء، وفي زمنٍ باهتٍ يُختزل فيه الشّعور، أنتِ الرّوح الملوّنة في زمن الرّماديّ المَقيت وأنتِ صوتُ المذياع الوحيدِ في صباحٍ باردٍ كئيب: "كيفَك انتَ..؟!"

نحنُ الذين تؤذينا المسافة كيف نحيا في البُعد؟ كيف لا ألتقي عينيكِ كلّ ساعة لتُجيب سؤالي دون دمعة وبصمتٍ ودون حُروف: "كيفَك انتَ..؟!"

"كيفَك انتَ..؟!"

غنّت فيروز المَساء، وانعكس السؤال في صدري أميالًا من الوجع، الذين عايشوا مرح الأطفال بقلوبٍ عاشقة بيضاء سيبكونَ يومًا بالكِبر وسيندمون عند الحِرمان من جواب دافءٍ بسيط سهل التّوقع: "كيفَك انتَ..".

 

 

أرشيف فلسطين الشباب