1
مكانٌ تستندُ فيه البيوت على بعضها،
مقتربةً على نحوٍ غامض، ربما كانت المساحة المخصصة للبناء ضيقة، أو ربما من وضعوا خيامهم الأولى كانوا متعبين يشعرون بالخوف، تقاربت قلوبهم فتقاربت خيامهم ثم بيوتهم ... عقدةُ الفقد التي عانوها، حاربوها بشبابيكٍ تكاد تتلامس كل صباح حين تفتحها الأمهات لطرد الرطوبة ..
2
أتخيل أهل المخيم حين كسرتهم الحرب، جرّوا أمتعتهم و أرواحهم، و نصبوا خيامهم على أنها ستسقط من الواقع عاجلاً، لم يرغبوا أن يكون لها محل من الإعراب والوجود المُرّ ، و لكن ها هي الآن مبنية إلى المجهول في محل رفع، بعد أكثر من ستين عام .
3
لسقوف (الزينكو) سيمفونيتها، حين تمرُ الريح عبر الثقوب تاركةً لآذاننا أصوات صفير هادئة أحياناً و غاضبة أحياناً أخرى، و لها أيضاً لعنتها في الصيف كأنها وقّعت عقد عملٍ مع الشمس. جاري اليساري يحب الشمس في الشتاء، تجده يبحث عن أشعتها في كل زقاق من الأزقة، لكنه في الصيف له طقوسه الخاصة في تمجيدها.. يقفُ على بقعة الإسمنت فوق حمام بيته و يلعن الشمس، يخاطبها كأنها أنثى عاهرة، تحبلُ من عبيدها ثم تلدُ أبناءها فوق المخيم على هيئة حرارة مقيتة.. يسمعه أبي فينهره بصوتٍ عالي " استغفر الله يا أبو خالد، بدك السما تطيح علينا" يستشيط أبو خالد غضباً فيلعن أبي و يلعن دينه، يكتم والدي ضحكته في صدره و يكرر"استغفر ربك يا أبو خالد، مش هيك" فتنقضي تلك الظهيرة و نحن نسمع أبو خالد يسبّ كل شيء و كل شخص حتى زوجته المسكينة لا تشفع لها طبخة الملوخية التي تتميز بها، وتصيبها اللعنات أيضاً!
4
للمخيم دفئه رغم ثقوب الشبابيك و الأبواب التي يتسرب منها البرد و أصوات الصغار الذاهبين إلى المدرسة صباحاً، مارين بالأزقة يجرّون الحقائب و الشباشب، تنهرهم الجدات كي لا يوقظوا النائمين، كأنهن أميرات النوم و الحارسات عليه، و لأن الصغار ما زال النعاس يسكن عيونهم ، يتجاهلون العجوز الجالسة على عتبة البيت، و يزيدون احتكاكهم بالأرض، و العصا لمن عصى.
حينها في كل زقاق تسمع عناداً طفولياً يغني "يا رب تشتي يا رب .. خلّي العَجايز تِنْضبّ " كأن هذا السجع صار نشيد صباح المخيم أو المنبه خاصته.. و بعد أن ينتهي هذا النشيد، تسمع صدى نشيد آخر يتردد من مدرسة المخيم "بلادي .. بلادي .. بلادي يا أرضي يا أرض الجدود .. فدائي .. فدائي .. فدائي يا شعبي يا شعب الخلود" فأستيقظ و يستيقظ البيت كله، و تبدأ أصوات جديدة في التكاثر، الجار الذي يملك راديو ترانزستور، يرفع صوته قليلاً فتبدأ فيروز و"عيوننا إليك ترحلُ كل يوم" و "نسّم علينا الهوا".
5
قهوة على نار هادئة، و أمٌ تجّهز للخَبْز، أبٌ نسي الباب مفتوحاً و ذهب إلى العمل،
و أنا أجوب المخيم من على سريري بحثاً عن معنى جميل للصباح هنا.
6
الشخصيات من الخيال في زمانٍ مضى من صباحات مخيم لجوء فلسطيني، ولا علاقة لها بواقعي، و لكن قد تكون وُجِدت في واقع آخر..