رحلة بحث طفولية

  • دعد صيرفي

في سن الخامسة مع بدء تفتح مداركي العقلية، بدأ رأسي يغرق فيما اسميه اليوم "الأسئلة الكونية"،

وكان أول تلك الاسئلة هو الله! كنت أسمع تلك الكلمة كثيراً في التلفاز وفي أحاديث الأهل،. فتوجهت للبحث عن تلك القوة العظمى، وذات مساء توصلت - وفق مستوى عقلي المحدود حينها – إلى أنه يشبه غيمة سماوية لا أستطيع امساكها، خيرة معطاءة لا تكف عن منح المطر والخير للبحر الذي أحب!

 

ذات رحلة جوية من الكويت إلى عمان تمهيداً لوصولنا الى فلسطين في زيارة صيفية، طلبت من أمي أن تقتطع لي شيئاً من الغيم القريب من زجاج نافذة مقعدها في الطائرة، طمعاً مني بشيء مما تخيلته في حينها كحلوى غزل البنات! أذكر ضحكها وبأنها تعذرت لكون النافذة مصمتة لا يمكن فتحها، وعدتي يومها بأن تجلب لي شيئاً من تلك الحلوى الشهية فور وصولنا إلى الأرض. ربما لذلك كان الغيم بالنسبة لي شيئاً عصياً على الالتقاط والإمساك.. تماما كما الله! ومما زاد في تأكيد شعوري ذاك أن أمي كانت دوماً ترفع باطن كفيها نحو السماء أثناء دعائها عقب كل صلاة كانت تؤديها، تلك الحركة التي يبدو أنني فسرتها في حينه على أنها توجه خالص الى الله حيث هو، هناك فوق في الأعالي يتتبعنا ويراقبنا ويرعانا ويشهد كل شيء يحدث.

في سن الخامسة ذاك، رسمت الله غيمة! غيمة برأس شيخ يشبه محمد الشعراوي والذي أذكر أنني كنت أشاهد درسه الديني الأسبوعي مع والدي حين كان يبث على التلفاز، ويبدو أنه قد ترك لدي أثراً ما جعلني أربطه مباشرة بما خيل في رأسي.. رسمت الله كغيمة برأس الشيخ الشعراوي فزجرتني أمي، وأخذت الرسم مني، وأجهل ماذا صنعت به لكنني أظن أنها قد مزقته، مخبرة إياي بأن الله أكبر وأشمل وأعظم من كل ذاك، وبأنه من غير المسموح رسمه أو تمثيله بأي شيء.. ذهلت! وتوقفت فعلاً عن رسمه خوفاً من عصيانه وعذابه التابع لذاك، لكني لم أتوقف عن رحلة البحث عنه، تماماً كما لم تتوقف تلك الاسئلة الكونية عن القفز من ذهني الى الورق أحياناً، أو حتى عن الدوران في حلقة مفرغة في ذهني ككلماتي هذه والتي ترددت كثيراً قبل كتابتها!

كبرت، وعلمت ما علمته عن الله وعن من ينصبون أنفسهم مكانه على هذا الكوكب.. فتحول بحثي إلى الأشياء التي فقدتها، ولم أعد أستطيع الوصول إليها على امتداد تنقلات لضمان البقاء على قيد الحياة، وهرباً من حرب ما وأمور عائلية أجهل أسبابها امتدت من الكويت إلى عمان ثم إلى هنا حيث أنا الآن في المخيم، بل وربما ابتدأت قبل مولدي من قرية المسعودية قضاء يافا، دوما أعود في نصوصي التي أكتبها إليها.. فهي أصل الحكاية وفيها حتماً سأجد الاجابات عن ما أبحث عنه، وأحسب أن أول تلك الإجابات هو لسؤال حاصرني: ما البحر؟ والذي رحت وفقاً لما تيسر لي بعد فقدان تلك الزيارات الاسبوعية إليه والاستمتاع برفقة عائلتي بأجوائه أبحث عنه.. مرة شبهته بشجرة صنوبر عملاقة تحد أطراف المخيم، إذ كان صوت هدير الريح بين أوراقها الإبرية يشبه صوت موجه الهادر، لم أخبر أحداً بفكرتي تلك عنه، خشية السخرية منها وأقنعت نفسي بأن البحر أزرق وأكبر مساحة منها، فقررت استئناف البحث عنه مرة أخرى.. ليصطدم بحثي بحقل قمح أخضر كانت الريح تلاعب سنابله بدهاء جعلني أحسب صوته بحراً أخضراً واسعاً، أخبرت والدي هذه المرة عن خاطري ذاك فضحك لفكرتي تلك؛ كون بحري أخضر بلا ماء وموج! فتوقفت عن البحث، إلى أن أخبرني أحدهم قبل سنوات بأنني أعرف البحر، يثور ليعود قوياً وحاضراً مرة أخرى، لاكتشف بعد كل تلك السنوات أن ما اعرفه عنه لا يعدو عن كونه يشبه ذاكرة مائية واهية طفولية له، تشبه حزن سلمى المباغت على الماء المتسلل من بين أصابع يدها بعد محاولاتها الجاهدة لجمع انعكاس صورتها على صفحة الماء عبثاً!

رحت أكتب نصوصاً تشبه نصي هذا في محاولة للبحث عن إجابات لأسئلة تركها لي الموتى على الدرب.. التقط تلك الاسئلة وأسير كي أنسى غيابهم!

أرشيف فلسطين الشباب