"كي نكون عظماء.. علينا أن نتألم بصمت"
كلمات حفرتها بين شقوق هذه الجدران، الخالية من أي روح. مع أن جدران بيتنا يملؤها الشقوق أيضاً، لكنها كانت دائما رمزاً، و فناً من فنون حياتنا.. لا أعلم كيف مرت هذه الكلمات أمام عينيَّ قبل عام، قرأتها في مكان ما أم سمعتها من أحد، أم هي وليدة أفكاري المحمومة.. حقا لا أعلم. لكني أعلم بأنها هنا، تنام بجانبي في النصيب الأعلى من الأسرّة المصطفة بعشوائية. لم يزعجني مكاني يوماً، فهو في آخر زوايا الزنزانة المظلمة، أرى من مسكني هذا كل من حولي و أسفلي.. أرى الغاضب و الثائر، الحزين و المشتاق.. الأب والأخ و الزوج.. و أرى نفسي معهم، عائلتي التي اختارها لي العدو.
كلما جاءت أمي لزيارتي أخجل من نفسي.. أخجل لأني سمحت لها الولوج بين قذارة السجان و دنس المعتقل.. و أكره نفسي كلما حاولت أن تُوفدَ لي من جيوب ثوبها أملاً غير مرحب به في أيامي هذه.. لكنها لم تيأس أبداً.
في آخر زيارة.. سألتني إن كنت أشعر ببعض التفاؤل تجاه ارتباط اسمي بأسماء اللذين سيفرج عنهم في صفقة تبادل الأسرى، ضحكت باستهزاء. لا أبداً.. لم أفكر بالموضوع. لا أعلم يا أمي كيف زرع الله في قلبك ذلك الأمل اللذي جعلك تسهرين الليل داعية راجية الحرية لابنك الأسير.
حتى جاء اليوم الذي دخل فيه الجندي اللعين إلى زنزانتنا ووقف على بابها. حاملاً معه ورقاً باهتاً، و بدأ بقراءة بعض أسماء المعتقلين في زنزانتي.. وأنهى كلماته بأن تلك الأسماء سوف تحصل على إنهاء حكم المعتقل خلال أيام؛ كجزء من صفقة تبادل الأسرى، وكان اسمي من بينها..!
كنت جالسا في سريري العلوي عندما سمعت ذلك؛ وفي ثوان قفزت من على الفراش كنورس لا حدود له، فضرب رأسي المبتهج سقف الزنزانة ورجَّ زواياها الصامتة، وانطلقت مني صرخة محروم لم تره الشمس منذ سنين، صرخة فرح صداها الألم لمقهور في انتظار الحياة. ارتد صوتي من حولي سمفونية رثة مبتذلة محت معها أي أصوات أخرى في المكان.. خلال لحظات كنت قد صعدت الى السماء تهليلاً؛ حراً أخيراً.. وهبطت من بعدها إلى أسفل سافلين؛ إلى سريري المكسور. وقبل أن أستوعب الموقف أو أفكر في أبعاد فرحتي، لاحظت وجوههم.. أسرتي التي سأتركها خلفي، البعض يبتسم لي بحسرة الآه، و البعض غارق في دموع الأسى و اليأس.. خنقت ضحكتي مرة واحدة و هدأت في تابوتي، دون ألم يشكوه رأسي. لكني سمعت أجيجهم وإن لم يكن مسموعاً.