بسمة خجولة تعلو وجهي

  • مهيرة جازي

بائعٌ مُتجول، صغيرٌ في السنّ كبيرٌ في الخبرة،

عمري عشرة أعوام، أتجوّل في الشوارع و الطرقات، بتلك الثياب الرخيصة الرثّة، كأيّ باحث عن لُقمة عيش، كأي شخص لم يُرزق بكنزٍ من السماء، أرى وأسمع من الحديث الروتينيّ يومياً ما يكفي ليُشعرني بالملل و التعقيد. ذات يوم، كسبتُ على غير العادة ما يزيد قليلاً عن حاجتي، و التي كانت قطعة خبز أدّخرها لطوال اليوم و قطعة جبن تسدّ جوعي، صرت أتطلّع يميناً ثمّ شمالاً ماذا أشتري؟ فكرت أن أشتري حذاءً غير الذي أرتديه، و لكنها للأسف لا تكفي لربع حذاء! إذن، ماذا عن قطعة قماشٍ جديدة! و كأنني أمزح حقاً.. بالكاد تكفي لنصف قطعة قماش! و استمرت الأحلام، و كأنني انتظرت هذه اللحظة لأتمنى أمنيات لا تُعدّ و لا تُحصى! اللباس، الطعام، الألعاب.. و ما زالت ذاكرتي تخوض في التمنّي! و بعد انقضاء اليوم، ما زلت أحتفظ بذاك المبلغ، و ما زال التفكير يعمل بلا توقف، في صبيحة اليوم التالي، بينما أنا في الطريق قرأت إعلانا لمسرحية ستعرض هذا اليوم؛ و تحوي سراً غامضاً لا يعرفه إلا من سيشاهد العرض، حيث كان يحمل عنوانها الآتي "سِرّ كَومة فَوضى، ادخل و لا تتردّد لاكتشاف السّر" و صدفة كان المال المطلوب لشراء تذكرة هو ما كسبته زيادة على عملي. دفعني فضول مجهول لحضورها، لم أر نفسي إلا و قد دفعت المال و حصلت على تذكرة الدخول.

بينما أنتظر دوري للدخول، تهامست الأصوات من حولي مُتسائلة عن السّر الخفي! مذ زمن لم أر مثل هكذا حشد يملئهم فضول مجهول.. و أخيراً وجدت كرسياً في الصف الثالث، لم أكن أعلم إلى اللحظة سبب اندفاع طفل صغير مثلي لهكذا شيء؟! علّه الاشتياق إلى بذرة أمل تُزرع في قلبي.. بدأ العرض ولا صوت هنالك يكاد يُسمع، فالكل متشوّق لمعرفة السر. دخلت فتاة صغيرة تبكي بكاء حزيناً شجيّاً، لم يتمالك أحدٌ نفسه، فاغرورقت أعين الحشود لبكائها، استمرت على حالها مدةً لا تقل عن الخمسة عشر دقيقة، و في كل دقيقة يزداد بكاءها حزناً و ألماً. بكاءها ذكَرني بنفسي، بمشقّتي، بحياتي، ذكرني بتعبي، قلت لها في نفسي "كلانا أرواحنا مكسورة فلا تبكي!". مرّ شخص و سألها "لماذا البكاء يا صغيرتي" و كأنها المرة الأولى التي يناديها أحدهم بصغيرتي، فوجئت و بكت أكثر و أكثر، مسح دمعها و قال "أرجوكي لا تبكي!" قالت بنبرة البراءة، ألا أبكي، و أمي فقدت حياتها، و أبي، و أخوتي، و كل من أحب، و ماضيّ و مستقبلي، و وطني مات قبل مولدي بكثير.. و الأهم، نحن في زمن القسوة، قسوة البشر على لحوم أبناءهم من جنسهم القريب قبل الغريب، يعاملون بعضهم بلا رحمة، بلا شفقة، يعاملون بعضهم بالمصالح واللامبالاة.. نحن في زمن مات فيه الكريم. لم يتمالك حينها الرجل دموعه، حدّث نفسه قائلاً: و كيف لطفلة أن تقول كل هذا الكلام؟! أيعقل هذا؟ طفلة لم تبلغ السادسة بعد و رأت كلّ تلك القسوة.. لتتكلم بلسان عجوزٍ مضى عليها الزمن و سجّل حضوره.

فجأةً، عمّت الفوضى أرجاء المسرح، في الزاوية هناك امرأة عجوز تجلس على كرسيٍ خشبيّ، نظراتها كانت توحي بأنها تتأمل شريط حياتها. و هنالك في زوايا أخرى، امرأة ثلاثينية العمر مع أطفالها و تحمل أحدهم بين يديها، ملامحها القاسية توحي بأنها تحمل جبال هموم على كاهلها.. و هناك أيضاً، مجموعة شباب يجلسون على مقاعد الدراسة، كأنّ الأمل مُحِيَ من حياتهم قبل مجيئهم هذه الحياة! يدرسون و يهمهمون لبعضهم همهمات متعبة، يائسة و يُردّدون الشكوى باستمرار، كأن ألسنتهم اعتادت ذلك!. و في وسط المسرح أيضاً تعدّدت الوجوه و الشخصيات. منهم الفقير الذي يجلس على رصيفٍ يملئه الاكتئاب! و منهم الغنّي الذي يجلس على مكتبه و يضع سيجارة في فمه، يشتم و يغضب و يتمنى المزيد.. و هنالك أيضاً، مجموعة من الشباب الهاوين كأنّ همهم الوحيد هو المتعة، يعيشون بلا هدف لحياتهم و بلا مسؤولية جادة و بلا هموم تُحرك أجفانهم! و يقف أيضاً هناك، زوجين يشكوان الزمان الذي جمعهما، وفي بقعة مؤلمة من المسرح، كانت هنالك امرأة تقف بجوار قبر كُتب عليه "ابني الغالي" كانت تُتمتم و تقول: كنت ابني الوحيد.. رحلت و أباك بغدر من الزمان! و بقيت تردّد كلماتها بصوت مبحوح، قاسي، أليم و يشكو ألماً عظيماً. بعد انقضاء ما يُقارب الساعتين، خرج عجوز يحمل عُكازاً، و بدت ملامحه أكثر إشراقا من الباقين، و قال: "هذا هو سر كومة الفوضى، الشكوى!". نعم، فلم أرى أحدهم كان راضياً بحاله، الكل يشكو و من ثم يشكو! لا شيء غير الشكوى! فهذه حال مُعظمنا إن لم نكن جميعنا.. أُغلقت الستائر، وعلت أصوات الحاضرين ترحيباً و إعجاباً. خَرجتُ و الحشود، و هنالك بسمة خجولة تعلو وجهي.. وقلت لنفسي: لن أشكوَ بعد الآن، ولكن هل تُراني أقدر!

أرشيف فلسطين الشباب