عودة إلى "الضوء الأزرق"

  • هند رمضان

عدت لأقرأ رواية الضوء الأزرق للروائي الفلسطيني حسين البرغوثي مرة أخرى،

رأيتها مختلفة، من منظور آخر حللتها، بعينين جديدتين رأيت مشاهداها، وسمعت حواراتها بطريقة اختلفت عن سابقتها، فهذه المرة قد قرأتها وأنا على متن الطائرة عائدة إلى وطني، بعد أن عايشت معاني الغربة، قابلت شخوص رحت أقارب بينهم وبين شخصيات الرواية، وتسللت إلى عقلي أفكار، كلمات، وأجزاء ثقافات لم يكن عقلي قد انكشف عليها من قبل.

يقول السارد: "العقل دولاب، وكلما دار الدولاب تغيرت طريقتنا في النظر إلى الدنيا والحياة وأنفسنا، وتغيرنا..". كيف يدور عقلك؟ وكيف تتغير طريقتك في النظر إلى نفسك لتعرّفها، وإلى ما حولك أيضا. يصطحبك بطل الرواية في متاهات روحه، ويشاركك معارك قلبه وعقله في غربته، وعندها قد تستطيع أن تمسك طرف خيط للإجابة عن أسئلة عديدة، فتعي التجربة التي عشت، وتوقظ في داخلك ما كان نائماً خامداً، فتفكر لتفهم ما كنت تعرفه دائما دون أن تفهمه. تدرك أن بين الاعتقاد والفهم شعرة إن انقطعت تلبّس الإنسان جفافاً في القلب، كما حال بطل الرواية "يفكر ويفكر ويفكر، ولكن لا يشعر بما يفكر فيه، ويحتاج إلى غصن صنوبر بين الكتب، ويعيش في رأسه" وهذا ما دعاه بري صديقه الصوفي بأنه نقص في حشوة الروح وفي جوهرها فقال "لا تعتقد.. افهم، عندما يستولي العقل على الروح يجف القلب" والجفاف نوع من الزيف.

جرت حوارات كثيرة بين شخصيات الرواية، تشعر وكأنها من عالم آخر، قد تقرأها لمرات عديدة حتى تفهمها بعمق معانيها، فتارة يتحدثون عن تخلف القلب، وتارة عن الشعور بالذنب، ومحاكمة الذات، وحوارات أخرى كثيرة، وفي هذه الحوارات تجد البرزخ في قلبك، فهناك –كما في الرواية- حاجز في قلبك يفصل بين بحرين، بحر مالح فيه من الألم، الندم، المرارة والذنب الكثير، وآخر حلو فيه من الايجابية ما يملأك أملاً وفكاهة وحياة، وقد يفيض أحدهما على الآخر، فإما أن يكون قلبك في غربتك قالبا وهنا الزيف وجفاف الروح، وإما أن يكون قلبك انقلابات روح وحياة.

بعيون فلسطينية قرأت الرواية أيضا، عندما يتحدث الراوي عن طفولته، فتعيش مع هويات متناقضة عاشها في صغره، كانت وليدة المجتمع الذي عاش فيه وترعرع، حديثه عن سلطة الذاكرة، وكيف يكون العيش صعبا مع ذاكرة عميقة كذاكرة الفلسطيني، وهنا يروي عن ثقافة الموت عند الفلسطينيين، ذكريات السجين التي تشكل هويته، وكيف تتأثر الأخيرة بهوية المحقق، ذاكرة اللاجىء وعلاقته بوكالة الغوث الدولية وشعوره كإنسان بأنه بلا كرامة، المقاربة التي عقدها لتفسير فصامه الشخصي، عندما عبر عن جسر الأردن الذي يفصل بين الضفتين على أنه لحظة تبديل الشخصيات، وكيف رأى ما بعد لحظة العبور حين تحل أحد شخصيات الفصامي مكان الأخرى بأنها تعبير عن "اللامكان" أي عن فلسطين والمدينة التي يسكنها رام الله. كل هذه تستيقظ في الغربة، وتوقظ في داخل الإنسان تناقضاته، وإدراك التناقض قد يساعد أحيانا على الغوص في أغوار الهوية، في التاريخ وفي الذاكرة، لتعرف ذاتك وتفهمها.

بكى بطل الرواية، وفي لحظة البكاء، فاض البحر الذي كان يخافه صغيراً، فلامس البحر طفل الجبل، وعندها فقط تغلب على خوفه من الجنون، والفصام، عندها تعرّف على كل ذاته، حيث قال "يحل لمن رأى عمقا كهذا أن يعيد صياغة نفسه".

كثيرة هي المشاعر والأفكار، والحقائق التي تدركها عن نفسك، أو تعي أنك لا بد أن تدركها بعد أن تقرأ الرواية، ولكن كما أنهى بطل الرواية كتابه بالقول "كان النبي في غاره يتأمل" باعثا رسالة بأنك إن أردت أن تدرك حقيقة الأشياء، حقيقة نفسك، وما يدور حولك، عليك أن تتأمل، كما فعل بري صديق حسين الصوفي من قبله

أرشيف فلسطين الشباب