حلوى جدتي في يافا

  • دعد الصريفي

في مدينة عشت فيها ما يقارب العشرين عاماً تهت اليوم في زقاق البلدة القديمة باحثة عن مقر مؤسسة..  كسائحة أحمل الخرائط الإرشادية في يدي،

جلت فيها وقد احمرت وجنتي خجلاً من تيهي  في حواريها،  وأنا التي أعد ابنة تلك المدينة رغم كوني من مدينة أخرى هجّر جدي منها قسراً..

ساءلت الباعة والمارة والأطفال.. تفحصت الوجوه والحجارة في آن معاً.. لم يعرفني الزقاق، لحظتها تسلل الي خوف أن تنكرني يافا بكامل أحيائها وشوارعها وأزقتها ومعالمها وبيوتها، ببحرها ومائها، وأن لا اتمكن من استنشاق رائحة برتقالها الممزوج برطوبة هوائها البحري.. أخشى إن دخلتها أن أمر من أمام باب منزل جدي فلا أشعر به ولا يتعرف هو إلي.. أن أعبر من أمامه دون حتى أن نتبادل تحية الصباح أو المساء.. همست لي سلمى أن لا تقلقي سيرشدك رنين سواري معصم جدتك اللذين حدثتني عنهما نحو بوابة البيت، ستجدينها هناك جالسة على عتبة المنزل وهي تبتسم وتحادث جميع المارة، وربما تمد يدها إلى "عبّها" حين تراك آتية نحوها لتخرج صرة النقود، ولتنفرج شفتيها المجعدتين عن ابتسامة مسترقة من همومه،ا فتمنحك شيئاً من فرح الطفولة المسلوبة منك هناك.. فتقبلي نحوها وتقبضي على ما منحتك إياه بقوة، وتجرين متناسية شكر جدتك وطبع قبلة على خدها، ورغم ذلك لا يتوقف ضحكها الذي يتدحرج خلفك على طول الطريق إلى الدكان لتبتاعي حلوى الطفولة من هناك وتعودي إليها منكرة بخباثة فضلها ذاك عليك .. أحيانا أشعر أن لا شيء أكثر تعقيدا من تحديد جواب لسؤال يطرح علي عند أول تعارف مع احدهم "من وين انتي".. فيأتي جوابي مرتبكاً و مليئاً بأسماء مدن بعضها لا يعني لي سوى مكان لأقامة مؤقتة، كوني لا زلت أؤمن بحقي المحفوظ في بيتنا هناك، وبما أملك من حكايا جدي عنه.. ويؤلمني كوني لا املك عدداً من الحكايا والذكريات عن تلك المدينة، يعادل ما أملكه لتلك المدن الأخرى.

"ساكنة في نابلس، بشتغل في رام الله، ولدت في الكويت وبعد الحرب عشت بعمان وبعدها جيت هون، واحنا أصلنا من يافا، من قرية اسمها المسعودية وامي من اللد".. ويتبع ذلك تعارف طويل تفصيلي لبقية شؤون الحياة.. هذا الصباح كانت سلمى هي من أصرَّت علي بأن اتوجه بعد اجتماعي في تلك المؤسسة نحو حاجز قلنديا العسكري.. هناك حيث تنتصب اللوحات الاعلانية التي توحي برفاهية عيش واهمة، وتعلو صفاً طويلاً من المارة والسيارات المحتشدين في أزمة خانقة.. كل منهم يسعى للوصول إلى مصدر رزق، ويخشى التأخر بسبب عجلة سير عقارب الساعة، التي لا تراعي أزمات الأوضاع السياسية وأزمات الحواجز العسكرية.. هنا في فلسطين لا الساعات ترحم ولا أرباب العمل يرحمون.. عليك أن تجري وتحترق من الداخل وتحرق معك أحيانا اعقاب السجائر في الانتظار، والتي على ما يبدو هي الرفيق الأوفى للسائقين على وجه الخصوص في تلك الظروف!

لعلهم بذلك يحرقون شيئاً من طول الطريق الزمني إلى مبتغاهم.. كانت طوال الطريق إلى هناك هادئة مستكينة، وقد تعجبت.. وما أن وصلنا إلى الحاجز حتى علت جبهتها مسحة من ذهول وألم عندما أبصرت صفوف العمال المنتظرين لإذن العبور.. ويبدو أن الأسئلة قد تزاحمت في ذهنها لتطرحها علي:

"ليش كل هدول الناس متجمعين هون ومش عم يمرقوا؟"

"لأنه في جدار وحاجز عسكري وممنوع يمرقوا بدون إذن"

"لوين بدهم يروحوا؟"

"كل واحد منهم عشغله.. يمكن في منهم بالقدس وشي بحيفا ويمكن يافا.. آخ نيالهم بيشوفوا يافا وبيشموا هواها"

"ليش احنا ما بنقدر نعمل متلهم؟"

"لأنه ما معنا تصاريح ولإنه ممنوع يطلع النا تصريح"

"ليش ممنوع؟"

"لأنه .. " وصمت ودمعت وكادت تلك العبرات أن تفتضح ألمي باستشهاد والدها، لكني أمام فضولها استجمعت شيئاً من الشجاعة : "عارفة شغلة يا سلمى؟ هاد الجدار بيلف وبيدور وبياخد أرضنا منا، وبياخد حتى متعة شوفتها ولو من بعيد.. آخ لو حد يجيب مهدّة بشي ليلة ما فيها ضو قمر ويهده"

"سهلة.. أنا بهده يما"

"كيف؟!"

"بسيطة.. هلا بتشوفي"

وقفزت من حجري وتبعها جيش من الطفولة الذي كان متخفياً في السيارات المتوقفة.. قفزن من على ظهر سيارة إلى أخرى وتقافزت معهن ظفائر شعرهن المزينة بالشرائط الحريرية الملونة.. قفز قلبي معهن خشية عليهن.. ناديتها فالتفتت الي ونظرت نحوي مباشرة، ابتسمت واشارت بسبابتها إلى الأعلى وقالت: "سأذهب لأجلب لك شيئاً من حلوى جدتك التي خبأتها لك أسفل وسادتها".. وقفزت وتبعتها الفتيات الأخريات وقد علا صوتهن يغنين، وقد أمسكت احداهن بيد الأخرى :"دور يا سور العسكر.. نطيت فوقه وانكسر.. واللي شافه ما همه.. داس عليه وهدمه.. شفت يافا ونادتني.. هاد البيت ل ستي.. ودور يا سور العسكر.. اجا يومه واندحر"

تتابع تقافزهن حتى اختفين وهن يرددن كلمات تلك الأغنية وقد تصدع الجدار تحت خطواتهن.. خرج الجميع من الحافلات والسيارات وسط ذهول وهول ما يحدث.. جن جنون الجنود على الحاجز العسكري واطلقوا بضع عيارات نارية في الهواء.. لأستفيق إثرها من غفوة سهت بها عيناي للحظات عن ذل الدقائق التي تستجدي خلالها الوقت والطريق والحافلات والجنود وحتى الزوامير لكي تتمكن من اجتياز جدار يحجب عنك بيتك القابع هناك.. حيث تنتمي حقاً وربما لا زال هو الآخر ينتظرك.

أرشيف فلسطين الشباب