شمعتك الوحيدة مثلك

  • ميرنا سخلة

أنت، جسدك ملقى على الأرض،  منغرس بفعل الجاذبية كجذور شجرة، في وسط صندوق إسمنتي أشبه

بالمكعب، له أربعة جدران و أرضية و سقف 
كنت أراك تعيش في هذا الصندوق كل يوم بسعادة، غرفتك، بيتك، مكان عملك، ولا أذكر أني سمعتك يوما تعترض على هذه الجدران بحجة أنها تقيد مساحتك، أو تشتكي ذلك السقف المنخفض الذي يجبرك على الانحناء! فلمَ أراك اليوم منتفضا فجأة ولا تكف عن الشكوى و البكاء، و مناشدة العالم، تطالب بالحرية و كسر القيود وبناء الجسور! اعتدت أن تعيش بين ستة جدران مغلقة، والآن لا تستطيع العيش خلف جدار واحد مفتوح؟ أيعقل ذلك يا جاري؟ 

لا حاجة إلى كهرباء، شمعة واحدة في عتمتك نورها كاف، ستائر نافذتك مفتوحة تسرّب ظلام الحي. 
قطرات المطر تتساقط على نافذتك و تعزف موسيقى عشوائية تسرع أحيانا و تبطئ أحيانا، عذوبة الوتر وحدة الإيقاع تندمجان معا، تلامس وجهك نسمة من ريح باردة تحملك إلى حضن الوطن، تمشي في شوارع بلدتك و تنهال عليك ذكريات الطفولة، تنشغل في الأفكار.. ماضي قديم، بقايا صور في رأسك تمسكها بين يديك و تغربلها، تزور قلبك وتدخل حجراتك وتلتقي أناس تحبهم.. بقايا بشر يعيشون هناك، يضخون لك نبضات تعيش بها، ترتمي في حضن أمك، وتذكر تلك الليلة التي قضتها وهي تضع و تبدل الكمّادات الباردة على رأسك حتى تزول الحمى، كانت بقبلة واحدة من شفتيها على جبينك، تعرف كم درجة حرارتك.

مدرسة، نادي، مخيم، عطلة صيفية، مكتبة، إمتحانات، طابور، رحلة مدرسية، صديقك المفضل، زميلك في المقعد، معلمة تحبها جدا و أستاذ لا تطيقه، المديرة سئمت رؤيتك في مكتبها بشكل أسبوعي... وتطلب حضور ولي أمرك، ثانوية عامة، شهادة نجاح، جامعة، حصلت على تأشيرة السفر... هل تذكر مدى سعادتك؟ تضُبُ حقيبتك لأول مرة و أنت تستعد للسفر.. هل تذكر مدى انفعالك؟ هل قلت وداعا و رحلت؟ أم ما زلت تنتظر اللقاء؟ هل تذكر تلك الأسئلة الحشرية التي سألتك اياها جندية شقراء على الجسر؟  أظنها تعتقد أنها خفيفة الظل عندما تسألك لِما أنت مسافر و ماذا تدرس وأين و كيف؟.  مطارات، قطارات، طابور طويل جدا.. أكثر مما حسبت، كنت تظن بأنه لا يوجد أطول من طوابير المواطنين على الحواجز ونقاط التفتيش؟.

تسكن وحدك، تعيش وحيدا.. تخلق عالما جديدا لم تسكنه من قبل، تكتشف دائرتك الفردية.. تنعزل، تنغلق، تبتعد عن الآخرين.. تكتشف نفسك، بالوحدة تجد متعتك الفردية، تبني لك قصرا كما تشاء، عاداتك تصبح طقوسا مقدسة لا تستطيع العيش بدونها، الكثير منا لديه نفس الطقوس اليومية.. تلك التي أضحت واجبات إنسانية ووطنية، فنجان قهوة عربية في الصباح، وسيجارة تعدل المزاج، لا يهم أي محطة إذاعية تفضل. فجميعهم يبدؤون نهارهم بساعة مقدسة من روائع الفيروزيات، وكم كنت أضجر من تلك الأغنيات التي تعاد كل يوم؟ كيفك أنت؟ حبيتك بالصيف! و أنا كبيتك بالشتي! لن أنكر.. أحيانا كنت فعلا أكره فيروز، و كم تمنيت استبدالها بأخريات! 

كتاب، دفتر، قلم حبر أو رصاص.. هل تذكر آخر مرة كتبت فيها بقلم رصاص؟ . بريد إلكتروني، فيسبوك، مواقع أخبار، جوجل.. أركان عالمك الآخر على الانترنت... هل تتخيل حياتك الآن بدون كمبيوتر؟ .
أحب الشتاء كونه يذكرنا بالكاكاو، كوب من الكاكاو الساخن.... يشعرك بدفء لذيذ في منتصف الشتاء، تستمتع بأكل الفاكهة والضحك الفكاهي، تكره رائحة الدخان و تعشق رائحة البخور.


في عتمتك ما زالت شمعتك الوحيدة مثلك تنير المكان، تحملها و تدور حول نفسك.. تشم عبق الأفكار والذكريات.. وتختلط روحك بخيالك، تهمس في شمعتك بهدوء حتى تنطفئ، و ينتهي ليلك هنا، ليبدأ صباحك عما قريب.. وهكذا دواليك.

أرشيف فلسطين الشباب