في الصف.. يدخل الجميع بقبعات شتوية، الطقس بارد قليلا والمطر كثير.. الهدوء مبالغ فيه في هذا المكان، وهاأنا أسمع الجميع بوضوح، تطرح معلمة الصف سؤالاً،
بدأتُ الإجابة عليه دون إذن فلم تعرف أي من زميلاتي الإجابة، صرت أرفع صوتي تدريجيا فقد بدا لي أن الصوت لا يصل للجميع.. وكلما رفعت صوتي أكثر، انخفض انتباه الجميع، حتى أن المعلمة استمرت في شرح الدرس، لوهلة شعرت أني لست واقفة هناك.. ثم جلست مكاني.
في الساحة.. تجمعت الفتيات في مجموعات، كن يتحدثن عن ذات الشعر الأخضر. رافقت اثنتين، جلسنا أمام البحر نتحدث (البحر مياه مطر تجمعت في طرف الساحة، البحر قطعة أرضية تنعكس فيها السماء)
بعد انتهاء الدوام أخذنا القطار في طريق العودة إلى البيت ( القطار درابزين على طرف الرصيف في نهايته يتصاعد دخان مخبز يبيع الخبز ملفوفا بورق الجرائد).
يعطيني الخباز الخبز ويعيد إليَ القطع النقدية، كل يومٍ أُعطيه ذات النقود، و في كل مرة يعيدها إلي ويقول: احتفظي بها لنفسك.. إنها لن تنفعني، نسي الخباز أن يلف لي الخبز بجريدة، فقد انشغل في حديث مع جاره عن ذات الشعر الأخضر.
في البيت.. الغارق وسط أكوام تراب السهل المهجور، حيث يحرس جدي سنابل القمح الميتة وبعض الجرذان، لمهاجرٍ يقال أنه حفظ وصية والده وأبقى على هذه الأرض، يجلس جدي وجدتي على مائدة الطعام، يتلوان نصوصا لا أفهما، يطلبان الرحمة لوالدتي التي ماتت في ظروف غامضة. قبل أن أرفع يدي، كانت جدتي تمسك بها وتطلب مني أن لا أخلع قبعتي، والتي بدأت أرتديها منذ سنة فقط، يرتدي جداي أيضا قبعتين جميلتين لا يخلعانها أبداً.. ثم يبدأ بعد ذلك درس اليوم و كل يوم:
لا تدخلي بابا مغلقاً قبل أن يفتح لك أصحابه
لا تبدئي بطرح السلام أولاً
إنْ شعرت بأن الآخرين لا يرونك غادري المكان فوراً، ولا تضيعي الوقت بالتفكير
ليس كل الأشخاص أشرارا، لكن ليس كلهم طيبون
لا تأكلي إلا بجهدك ( ولهذا فأنا آكل الخبز فقط، وأحيانا ورق الجرائد)
السماء غايتك والأرض مصدر قوَتك
هذه قواعد البقاء الست التي تُملى علي كي لا أنساها، في المساء أكررها عن ظهر قلب ليتأكد جداي أني أحفظها ثم أنام.
في المساء أيضا تخرج جدتي خلف البيت تجمع بعض الأعشاب، لتؤمن غذاءها لليوم التالي، وأذهب أنا للفراش، من النافذة الملاصقة لسريري أراقب النجوم وجدتي وأجمع أحلامي.. أتذكر صديقاً قديماً لي كان ينام مغمض العينين، ولد مسكين لم يكن يستطع أن يرى أحلامه، أخذه والداه لمنطقة بعيده قبل أن يبلغ الرابعة، أعتقد أنهم كانوا يخجلون من تصرفاته الغريبة.
مر الليل بسرعة هذه المرة، السماء صافية كالماء الذي يشربه جدي، أنا وجدتي لا نشرب الماء، وجدي يحضره لنفسه من البئر المجاور.
أحب أول طلوع الشمس أكثر من أي وقت في النهار، حيث تتباهى الشمس بمهاراتها، تنفض عنك كل برد الليل و تغطيك بالذهب. نهضت بسرعة استعدادا للذهاب إلى المدرسة، بعد أن قطعت تلك المسافة عبر السهل الذي يبدأ لونه بالتغير في هذا الوقت من السنة، شعرت بالدفء الشديد، الجميع في الشارع خلع قبعته الشتوية، خلعت قبعتي أنا أيضا، وأكملت الطريق إلى المدرسة.
في الصف، الهدوء المبالغ فيه.. يشككني بضعف السمع لدي، أرى الجميع بوضوح، تطرح معلمة الصف سؤالاً، بدأت الإجابة عليه دون إذن فلم تعرف أي من زميلاتي الإجابة.. شعرت أن لا أحد يسمعني، لأول مرة سأعمل بنصيحة جدي..غادرت الصف مسرعة باتجاه الشارع، كنت أشعر بالاضطهاد أو الإهمال.. تطاير شعري المنفول ورائي، صرت أركض بسرعة أكبر، بدأت أشعر بغبطة وأنا أستحم بالهواء الدافئ، علقت خصلة من شعري بطرف باب فتح باتجاه الشارع، تسببت في توقفي بشكل مفاجئ، حاولت أن أفك الخصلة وأخلص نفسي، فنزعتها عنه بقوة، بقيت خصلة صغيرة عالقة بقفل الباب، سحبتها ببطء، إنها..خصلة خضراء.. نزعت من شعري.
مررت بالخباز.. أعطاني الخبز ملفوفاً بالجريدة، أعاد إلي قطعي المعدنية.. أعدت له الخبز وأخذت الجريدة.