وقف هناك لا يدري ماذا يفعل، فقد أصابه الطفر والزهق من ذلك الروتين الذي يُطلق عليه مصطلح "وظيفة" وهو يؤثر أن يُطلق عليها اسم " مقبرة الطموح" أو "نهاية المطاف"
أو أياً من التسميات التي تعكس ما آل إليه حاله وحال جيله، ممن كانوا يعتقدون أن اثنتي عشرة سنة دراسية ملؤها المعاناة النفسية والجسدية وتخطي الصعاب، والضيق المادي حيناً والضيق التنفسي أحياناً قد تكون أكثر جدوى، فقد أحس أكثر من مرة أنه يود لو يتخلى عن كل ذلك السهر والتعب والنكد من أجل نصف ساعة نوم، أو ساعة مع بقية "الشلّة" في الحارة، يمضيها في التجوال هنا وهناك دون فائدة أو كما كان يسميه أبوه "زعرنة وبطالة". ثم تلك السنوات الخمس التي أمضاها في الجامعة يدرس كتباً قطر الواحد منها لا يقل عن الخمسة عشر سنتمتراً ومكتوبة بلغة انجليزية، لطالما شكلّت له هاجساً في سنوات المدرسة.
لقد تحدى كل ما واجهه من عقبات في المدرسة، وكل المصاعب في الجامعة، وظل الجميع طوال الوقت يوهمه أن هناك هدفاً أسمى، وغاية أعظم عليه أن يكدّ من أجلها حتى يصل إلى ما وصل إليه القلائل والمختارون. لا.. لا تعتقدوا أنه ينكر فضل العلم، أو فضل أساتذته عليه أو كل من ساهم في نجاحه، خصوصاً أمه التي كانت تسهر معه و"تهمل همّه" وكأن مصير العالم يتوقف عليه، حتى أن الناس من حولها جاؤوا ليهنئونها بنجاحها هي وليس نجاح ابنها في التوجيهي، وهي التي حفظت "دورة الكلوروفيل" في كتاب الأحياء، وكيفية احتساب محصلة القوى في كتاب الفيزياء، ونصف معادلات الكيمياء العضوية، وقواعد اللغة الإنجليزية كاملة. أما والده فلم يوفر جهداً أو شخصاً إلا ووظفّه في سبيل استقدام أفضل الأساتذة وأكثرهم خبرة، ليتلقى ولده على أيديهم ما تتسع له ثلاثة أدمغة وليس واحداً! حتى بياع الفلافل الذي في أول الشارع كان يفتتح دكانه كل اثنين صباحاً مبكراً على غير العادة، حتى يحضّر ساندويشات لما يسميه "معززات بروتينية للقدرات الذهنية" لشباب وصبايا الحارة ممن يدرسون في المرحلة الثانوية. أما صاحب مكتب تصوير الوثائق المجاور فقد كان يحتفظ بكل ما تصل إليه يداه من أوراق عمل وكتب مساعدة ووثائق مساندة، لبيعها إلى طلبة الثانوية بسعر أقل من المتعارف عليه، مراعاة منه لحالهم وتشجيعاً لهم على حسن التحصيل العلمي. حتى سهرة ابن جيرانهم الإبن الوحيد بين خمس بنات والذي تزوج حديثاً، فقد راعى أهله وجود طلبة توجيهي في المنطقة، فلم تَطُل السهرة أكثر من الساعة التاسعة مساءً، واكتفوا بوجود مسجل صوتي دون أن يأتوا بمطرب شعبي (على أساس أن من يريد أن تكون سهرته مجلجلة فعليه أن يأتي بأضخم مكبرات للصوت وألعاب نارية ويستمر في الطرب والغناء حتى الثانية فجراً).. وهذا ليس سوى غيض من فيض، من الترتيبات العسكرية وحظر التجول الذي كان يفرضه أهل الحارة على أنفسهم أثناء فترات الامتحانات، حتى أن "لفة القهوة" التي كانت تدور كل يوم في بيت واحدة من الجارات من أجل الدردشة والفضفضة (أي الغيبة والنميمة) كان يتم اختصارها إلى مرة واحدة في الأسبوع، أو حتى التضحية بعدم عقدها لمدة أسبوعين متتالين برغم أن الكثير من الأخبار كانت ما تزال في الانتظار!
وبعد أن أصبح فتية وفتيات الحارة صبايا وشباباً في الجامعة، فقد كان الحديث يدور عن خيارين لا ثالث لهما، فإما تكون خطبة فلانة لفلان ومن ثم حفل الزواج في الصيف الذي يليه، أو أن فلان يود أن يكمل تعليمه الجامعي حتى يتخرج من الجامعة ويجد وظيفة، وبالتالي يصبح مؤهلاً ليفتح بيتاً ويصرف عليه، وبالتالي على فلانة أن تُكمل تعليمها الجامعي بدورها حتى تتخرج وتجد وظيفة هي الأخرى لتساعد زوجها المستقبلي في مصروف البيت.
وبالطبع لا اعتراض على أي مما سبق، لكن المصيبة هي فيما يأتي بعد ذلك، فأين هو ذلك الهدف الأسمى؟ وأين هي تلك الغاية الأعظم؟ فمن غير المقبول أن ينتهي كل ذلك المهرجان الصاخب إلى تلك النهاية الصامتة، أو أن ينتهي الفيلم السينمائي الرائع والطويل والغني بالأحداث، إلى ذهاب البطل إلى بيته لينام مثلاً! أليست النهاية الكلاسيكية لمثل هذا النوع من الأفلام تقضي أن يحصد البطل جائزته، بأن يفوز مثلا بقلب البطلة، أو نيشان الشجاعة، أو يهتف له كل من في البلدة لأنه حررهم من الطوفان أو الغول. هذا ما يتكرر عادة، تحس بأن هناك هدفاً أسمى يسعى وراءه البطل، ويتخطى لأجله الأهوال، وفي النهاية يحصل على مبتغاه، وتصوّر الكاميرا المشهد الأخير لوجوه مبتسمة دامعة، لأناس يحتفلون بالنصر ويعلو صوت الموسيقى المرافقة.. ثم فجأة تأتي تلك الشاشة السوداء بقائمة أسماء من شارك بالتمثيل، عندها تتلفت حولك وتنظر إلى المرآة المجاورة فيطالعك وجهك وهو ما يزال يحمل إمارات الإثارة والمغامرة، فتحس بتلك الصدمة التي تعيدك إلى الواقع، وتنظر إلى ساعة الحائط التي تُنذرك أنها تخطت موعد نومك بساعات، أي أنك ستصحو متأخراً، والنعاس يشدّك بقوة إلى لحافك الدافئ، وأنت تشدّ نفسك حتى تذهب إلى تلك الوظيفة أو إلى "نهاية المطاف".